البنوك المركزية والسيطرة على التضخم «1 من 3»
أدت شدة الأزمة المالية العالمية إلى قلب عدد من الحقائق الاقتصادية، بما في ذلك توافق شبه عام في الآراء على أن المسؤولية الرئيسة للبنوك المركزية هي السيطرة على التضخم.
فقد ألقى عدة نقاد باللوم على البنوك المركزية لعدم تحركها لمنع الأزمة المالية العالمية الأخيرة، جزئيا لأن اختصاصاتها الضيقة تكلفها بواجبات محدودة للحفاظ على الاستقرار المالي. ومن ناحية أخرى، أثارت الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية للحيلولة دون إطالة فترة الركود عقب الأزمة المالية تساؤلات بشأن ما إذا كان ينبغي أن تكون البنوك المركزية معنية بدرجة أكبر بالنمو وتوظيف العمالة، ليس فقط أثناء الأزمات وإنما أيضا في الظروف العادية.
وفي ظل البيئة الحالية التي يسودها نمو منخفض ويشكل التضخم فيها تهديدا محدودا، يزداد احتمال تكليف البنوك المركزية بمهام إضافية لتعزيز النمو الاقتصادي وتوظيف العمالة. وتوفر الفقاعات التي يمكن أن تحدث حافزا لفكرة أن للبنوك المركزية دورا تضطلع به في منع وقوع أزمة مالية أخرى. وفي الواقع، اضطلع بعض البنوك المركزية بالفعل بما يسمى سياسات السلامة الاحترازية الكلية لتعزيز استقرار النظام المالي ككل، وليست فقط فرادى المؤسسات المالية.
وبينما لا تزال المناقشة بشأن هذه المسألة جارية في الاقتصادات المتقدمة، فمن الحتمي أن تنتشر إلى أمريكا اللاتينية. وتتسم مناقشات السياسات اليوم بأنها عالمية. ومن المرجح أن ترسخ ممارسة تكليف البنوك المركزية بمسؤولية منع الأزمات المصرفية في منطقة لها تاريخ من انعدام الاستقرار المالي المزمن، في حين يمكن أيضا أن تكون دعوة البنوك المركزية إلى المساهمة في النمو الاقتصادي وتوظيف العمالة جاذبة نظرا لأن التوقعات تشير إلى أن النمو سيظل قابعا في مستويات منخفضة، كما هي الحال في بقية أنحاء العالم.
غير أن تكليف البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية بمهام متعددة يشبه العودة إلى المستقبل. فقد كان لدى كثير من البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية عدة اختصاصات، بما في ذلك الحفاظ على استقرار المصارف وتعزيز النشاط الاقتصادي وتوظيف العمالة، ولم تكن النهايات سعيدة في الأغلب. ويمكن إذن أن يقدم لنا التاريخ منظورا مفيدا بشأن سبل تشكيل سياسات البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية في المستقبل. وعلى أي حال، كما قال الروائي الأمريكي الشهير ويليام فوكنر ذات مرة، "الماضي لا يموت أبدا، بل إنه حتى ليس ماضيا".
يمكن تقسيم تاريخ البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية إلى ثلاث فترات رئيسة: الأعوام الأولى التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي، ومرحلة التطور التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، والأعوام الذهبية التي تلت التسعينيات وفي كل من هذه الفترات، كانت لدى المصارف اختصاصات وأطر مختلفة للسياسات أسفرت عن اتجاهات مختلفة للتضخم. وكان كل من الكساد العظيم في الثلاثينيات وانهيار نظام بريتون وودز في أوائل السبعينيات إيذانا ببدء حقبة جديدة للبنوك المركزية في المنطقة. ويبدو أن الأزمة المالية العالمية والركود الكبير اضطلعا بدور مماثل اليوم.
أنشئت البنوك المركزية الأولى في أمريكا اللاتينية عندما كان معيار الذهب هو الذي يحكم النظام النقدي الدولي. وشملت هذه المصارف مصرف الاحتياطي لبيرو "1922" ومصرف جمهورية كولومبيا "1923". وأنشأت شيلي والمكسيك بنوكا مركزية عام 1925، تبعتهما جواتيمالا "1926" والإكوادور "1927" وبوليفيا "1929". وكلفت البنوك المركزية بتحقيق ثلاثة أهداف هي: الحفاظ على الاستقرار النقدي، وتمويل الحكومة بصورة محدودة، والمساعدة على الحفاظ على استقرار المصارف.
وبموجب معيار الذهب كانت البنوك المركزية ملتزمة بالحفاظ على إمكانية تحويل العملات بأسعار صرف ثابتة مع السماح بتدفق رأس المال بحرية إلى داخل اقتصاداتها ومن خارجها "حساب رأسمالي مفتوح". وكان بإمكان البنوك المركزية إصدار أوراق البنكنوت على أن تدعمها الاحتياطيات الدولية، وهي بالدرجة الأولى الذهب والعملات الأجنبية التي يمكن تحويلها إلى ذهب.
لكن بنهاية العشرينيات، كانت آثار الكساد العظيم محسوسة في أمريكا اللاتينية. فمع وقوع الاقتصادات المتقدمة في براثن الركود، تراجع الطلب على السلع الأولية. وتراجعت كذلك أسعار الصادرات لاقتصادات أمريكا اللاتينية التي تنتج السلع الأولية بدرجة كبيرة، فوقعت هي أيضا في حالة كساد. وتعقدت الحالة لهروب رأس المال من المنطقة للاستفادة من أسعار الفائدة الحقيقية الأعلى في الولايات المتحدة.
وأصبح الحفاظ على معيار الذهب أثناء الكساد الكبير مستحيلا وتوقفت أمريكا اللاتينية عن العمل به. ولم يعد على البنوك المركزية أن تضمن إمكانية تحويل العملات المحلية، لكنها حافظت على ثبات أسعار الصرف بدعم الضوابط الرأسمالية للحد من تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج. وبدأت فترة انتقالية للبنوك المركزية مع تحول السياسة النقدية إلى الطور التوسعي لتوفير ائتمان على نطاق واسع للحكومات لمساعدتها على استعادة النشاط الاقتصادي. وتوسعت الميزانيات العمومية للبنوك المركزية بسرعة في بلاد مثل شيلي، وفي بيرو على وجه الخصوص، حيث زاد الائتمان المقدم للحكومة بأكثر من ثلاثة أضعاف في الفترة بين عامي 1933 و1938، وزاد مرة أخرى بنسبة 300 في المائة أخرى عام 1944"، وفي المكسيك مثل الائتمان المقدم للحكومة نحو 45 في المائة من مجموع أصول مصرف المكسيك عام 1940... يتبع.