Author

مقايضات في قمة ترمب - خان

|

المعروف أن هناك جماعات انفصالية في إقليم بلوشستان الباكستاني، أشهرها "جيش تحرير بلوشستان"، الذي يقاتل الحكومة المركزية الباكستانية، مطالبا بالاستقلال، أو على الأقل التمتع بحكم ذاتي واسع. والمعروف أيضا أن هناك جماعات بلوشية مسلحة أخرى في محافظة سيستان/ بلوشستان الإيرانية مثل "حركة الفرقان"، التي تقوم بعمليات مسلحة ضد الحرس الثوري الإيراني، بسبب ما تتعرض له مناطقها من تهميش تنموي وتمييز عرقي/ طائفي من قبل نظام الملالي الجائر.
غير أن هذا ليس موضوعنا؛ فما نحن بصدده هنا هو الدراسة الفنية التي نشرها البنك الدولي هذا العام حول تطورات مشروع الممر الاقتصادي الصيني ـ الباكستاني، الذي هو مشروع اقتصادي ضخم ــ ضمن مشروع طريق الحرير ــ يضم عددا من مشاريع البنى التحتية في باكستان، من أهمها ربط مدينة كاشغر الصينية بميناء غوادر على بحر العرب الواقع في إقليم بلوشستان الباكستاني، بتكلفة إجمالية مقدارها 46 مليار دولار، علما بأن باكستان تعول عليه كثيرا لدفع عجلة اقتصادها ولا سيما في بلوشستان الفقيرة، بينما تعارض الهند هذا المشروع لمروره في الجزء الباكستاني من ولاية كشمير المتنازع عليها.
التقرير اتهم باكستان بإنفاق جزء يسير "10 في المائة" من أصل 5.5 مليار دولار خصصتها بكين للإنفاق في بلوشستان وحدها، الذي كان مقررا صرفه على بناء شبكات من الطرق في العاصمة كويتا، وتزويد الإقليم بالمياه الصالحة للشرب وإقامة مولدات إضافية فيه لمواجهة النقص الشديد في الطاقة الكهربائية. باكستان لم تنف الواقعة لكنها حملت مسؤوليتها لحكومة نواز شريف رئيس الوزراء السابق المعتقل حاليا.
المعروف في السياق ذاته أن الصينيين هددوا أكثر من مرة بإلغاء بعض من مشاريعهم في إقليم بلوشستان، ليس لهذا السبب، إنما لسبب آخر هو قيام "جيش تحرير بلوشستان" والمتعاطفين معه باختطاف فنيين صينيين أو الاعتداء عليهم كنوع من الترهيب لإيقاف ما يسمونه "غزوا أجنبيا وتدخلا في شؤونهم الداخلية".
المنطق يقول طالما أن الجماعة البلوشية في باكستان تقلق مضاجع بكين التي تخوض واشنطن حربا تجارية وسياسية ضدها، وطالما أن نظيرتها في إيران تقلق مضاجع ملالي طهران الذين يهددون المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، فإن على إدارة الرئيس ترمب احتضان ودعم الانفصاليين البلوش، وليس تصنيفهم ضمن قوائم الجماعات الإرهابية على نحو ما فعلته أخيرا. لكن يبدو أن للسياسة قولا آخر.
لقد جاء القرار الأمريكي حول "جيش تحرير بلوشستان" متزامنا تقريبا مع أول زيارة لعمران خان رئيس الوزراء الباكستاني إلى واشنطن منذ وصوله للسلطة في أغسطس 2018، وهي زيارة اصطحب فيها خان معه لأول مرة في تاريخ زيارات الزعماء الباكستانيين للولايات المتحدة قائد جيشه ورئيس مخابراته، كما تزامنت الزيارة أيضا مع قرار إسلام آباد إعادة اعتقال مواطنها "مسعود أزهر" المدرج أمميا على لائحة كبار الإرهابيين العالميين، لدوره في تفجيرات الفنادق الدموية التي شهدتها مدينة مومباي الهندية سنة 2008، بعدما كانت قد أفرجت عنه ورخصت لحزبه السياسي. كل هذه المتزامنات دفعت المحللين إلى القول إن ملفات أمنية كثيرة ستطرح على طاولة البحث المستفيض في لقاء ترمب وخان، وإن مقايضات ستجرى في عدد من القضايا.
من هذه المقايضات إعادة علاقات التحالف الأمريكية الباكستانية إلى سابق عهدها مع تقديم واشنطن لإسلام آباد مساعدات عسكرية واقتصادية معتبرة، والالتزام بإدراج الجماعات الانفصالية البلوشية ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية كي يكون بمقدور إسلام آباد ملاحقتها وضربها أينما وجدت "داخل الحدود وخارجها" من دون مساءلة قانونية، ذلك مقابل موافقة حكومة عمران خان على لعب دور أقوى وأوضح في القضاء على الإرهاب وعمليات غسل الأموال، علاوة على قيامها بدور ضاغط على حركة طالبان والتنظيمات الإرهابية المتفرعة عنها من أجل تحقيق السلام في أفغانستان، وبالتالي تسهيل مهمة انسحاب القوات الأمريكية من الأخيرة، وفي هذه الجزئية لا بد من استحضار الاتهام الذي وجهه الرئيس ترمب في ديسمبر 2017 إلى باكستان بأنها "لم تقدم سوى الأكاذيب والخداع في الوقت الذي توفر فيه ملاذا آمنا للإرهابيين"، وهو ما نفته إسلام آباد جملة وتفصيلا. لم يتسبب هذا الاتهام فقط في تصدع التحالف التاريخي الطويل بين البلدين، إنما تسبب أيضا في عزلة باكستانية مريرة مع انفتاح أمريكي واسع على الهند، لكن هذا "الحليف المخادع" ــ بحسب ترمب ــ يبدو اليوم أقرب إلى الخروج من عزلته، بعد أن اقتنع ترمب بأن لباكستان ضرورة من أجل دفع محادثات السلام الأفغانية إلى الأمام وخروج الأمريكيين من المستنقع الأفغاني الآسن، مثلما كان لباكستان ضرورة في "حرب الجهاد" ضد السوفيات زمن الجنرال ضياء الحق ونظيره الأمريكي رونالد ريجان.
ليس هذا فحسب، إنما لوحظ بعد مباحثات ترمب - خان، إعلان الأول استعداده للتوسط بين الهند وباكستان في قضية كشمير الشائكة، وهو ما عُدّ تغيرا جوهريا في السياسة الأمريكية التي طالما شددت على حل القضية بشكل ثنائي بين الجارتين اللدودتين. لكننا نضع هذا الأمر أيضا في نطاق المقايضات آنفة الذكر.

إنشرها