التدفقات الرأسالمية والمد الصاعد «2 من 3»

ما وصفته إلى الآن هو نموذج لسلوك الشركات وضعته بصورة أكمل في دراسة أعددتها مع زميلين لي هما دوجلاس دياموند ويونويه هيو. والآن دعونا ننتقل بمنظورنا ونضع هذه الشركة في أحد اقتصادات الأسواق الصاعدة. ونحن نضيف ثلاث فرضيات أخرى بناء على ظهور أدلة واسعة. أولا، الشركات المحلية في اقتصاد السوق الصاعدة عليها قروض قائمة بمبالغ طائلة من بلدان المصدر أو مقومة بعملة تلك البلدان. عادة ما يكون بلد المصدر هو الولايات المتحدة والعملة هي الدولار، وإن كانت نقطتنا أعم من ذلك. تفسر (دراسة Gopinath and Stein 2018) أسباب استدانة الشركات المحلية بعملات أجنبية، وهناك مجموعة كبيرة من الدراسات التي توثق هذه الظاهرة بأدلة تجريبية.
ثانيا، السياسة النقدية الأيسر في بلد المصدر تدفع رؤوس الأموال الباحثة عن عائدات أعلى نحو بيئات تدر أسعار فائدة أعلى، مثل اقتصادات الأسواق الصاعدة. وتؤدي هذه التدفقات الداخلة إلى رفع قيمة عملة السوق الصاعدة أمام الدولار. ونظرا لحصول عدد من شركات الأسواق الصاعدة بالفعل على قروض بالدولار، فالنتيجة هي توقع ارتفاع صافي ثروتها، ومن ثم السيولة المتوافرة لديها، بينما ينخفض مقدار العملة المحلية التي تستخدمها في سداد القرض الأجنبي. وما دامت السياسة النقدية في بلد المصدر تتفاعل بقوة مع انخفاض النمو المحلي لكنها لا تعود إلى طبيعتها إلا بعد فترات طويلة "خاصة في فترة انخفاض التضخم"، فالتدفقات الرأسمالية نحو الأسواق الصاعدة يمكن أن تكون كبيرة. وفي ظل توقع حدوث ارتفاع مستقبلا في القوة الشرائية للشركات المحلية التي اقترضت بالدولار بينما سعر العملة يرتفع، سيكون المقرضون على استعداد للتوسع في منح ائتمان بشكل كبير للشركات المحلية الأخرى اليوم. ويؤدي هذا الأمر إلى زيادة الاقتراض وارتفاع أسعار الأصول في البداية. وفي وقت ما، ستعود السياسة النقدية لبلد المصدر إلى طبيعتها - العنصر الثالث. وسيؤدي تشديد السياسة إلى انخفاض أسعار عملات الأسواق الصاعدة، وزيادة مدفوعات سداد القروض الأجنبية على أساس قيمة العملة المحلية، وتنخفض بالتالي السيولة لدى الشركات. علاوة على ذلك يصل التمويل بالديون إلى مستوى أعلى بكثير في بداية فترة تشديد السياسة، لأن المقرضين كانوا يتوقعون احتمالات أعلى من السيولة المتواصلة. وتتراجع إمكانات سداد الديون كما تنخفض القدرة على تجديد الدين، ليس نتيجة انخفاض السيولة وحسب، لكن كذلك نتيجة إغفال مسألة حوكمة الشركات. واقتران ارتفاع مستوى التمويل بالديون وتراجع القدرة على سداد الديون سيعني إحجام المقرضين المحليين والأجانب عن تجديد القروض. وإذا كانت على الشركة قروض كبيرة قصيرة الأجل من قبل، فإن تراجع القدرة على سداد الدين يمكن أن يعجل بموجات الذعر ما يضع الشركات على الفور في حالة مديونية حرجة.
وبينما الانهيار في السيولة المحتملة قد ينشأ مع تغير موقف السياسة النقدية في بلد المصدر، فلا حاجة إلى أن تكون له أي علاقة بالسياسات الاقتصادية الكلية في الأسواق الصاعدة، وبمصداقيتها من عدمها. وبتعبير آخر ربما كانت فترات الكساد والانتعاش في الأسواق الصاعدة هي في حقيقتها تداعيات من سياسات بلد المصدر. والاضطراب الحاد مع عودة السياسة العادية أو ما يطلق عليه taper tantrum يعطينا مثالا جيدا على مدى ما يوجده تغير السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة -أو حتى التوقعات بتغيرها- من تداعيات على الأسواق الصاعدة. ففي 2013، أشار بن برنانكي الذي كان رئيس الاحتياطي الفيدرالي في ذلك الوقت إلى أن المصرف قد يبدأ في وقت قريب "تقليص" مشترياته من السندات بعد فترة طويلة من السياسات النقدية بالغة التيسير. وكانت النتيجة خروج التدفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة وهبوطا حادا في أسعار أصول الأسواق الصاعدة وعملاتها.
قبل وقوع الأزمة المالية الأخيرة، كان هناك شعور سائد بين صناع السياسات بأن العالم وصل إلى مستوى أمثل من السياسات، ما أسهم في "الاعتدال الكبير" في التقلب الاقتصادي. وفي هذا العام، كان الهدف الوحيد للسياسة النقدية هو تحقيق استقرار الأسعار المحلية، وهو ما تحقق من خلال استهداف التضخم المرن. ومن خلال السماح لسعر الصرف بالتجاوب عند الضرورة، ألغى النظام الحاجة إلى التدخل في أسواق العملات أو تراكم الاحتياطات. على سبيل المثال، إذا دخلت التدفقات الرأسمالية بلدا ما وسمح لسعر الصرف بالارتفاع ستتوقف التدفقات الرأسمالية الداخلة إلى هذا البلد في نهاية الأمر نظرا لأن توقعات انخفاض سعر الصرف مستقبلا تؤدي إلى تراجع التوقعات بشأن الإيرادات. وتشير مجموعة كبيرة من البحوث التي أجريت منذ الأزمة المالية العالمية في 2007 - 2008 إلى أن هذا الرأي شديد التراخي فتداعيات التدفقات الرأسمالية الداخلة لا يمكن موازنتها بالسماح بارتفاع أسعار الصرف. وبدلا من ذلك، كثير من البلدان التي أقدمت على هذه الخطوة شهدت رغم ذلك زيادة في التدفقات الرأسمالية الداخلة، باحثة عن العائدات التي حققها من سبقهم من المستثمرين. وبالفعل، يشير نموذجنا إلى أن تقلبات سعر الصرف هي السبب الرئيس وراء تقلبات سيولة الشركات في البلدان المتلقية لرؤوس الأموال، وكانت اقتصادات الأسواق الصاعدة تتعرض في كثير من الأحيان لاتهامات بالتلاعب بعملاتها لزيادة القدرة التنافسية لصادراتها. لكن القلق بشأن القدرة التنافسية في مجال التجارة يتعين ألا يكون سبب مخاوف سلطات البلد المتلقي للتدفقات من السماح بتعويم عملته أو التحرك بحرية أكبر مقابل الدولار. وربما كانت محاولاتها لتمهيد تحركات سعر الصرف تمثل جهودا لتجنب التقلبات الكبيرة في توفير الائتمان وما ينتج عنها من تقلب اقتصادي كلي. وقد سبق لسلطات الأسواق الصاعدة رؤية هذا المشهد عدة مرات من قبل وتعرف نهايته... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي