التدفقات الرأسالمية والمد الصاعد «1من 3»

هناك حاجة إلى التعاون الدولي لجني منافع التدفقات الرأسمالية العابرة للحدود وتجنب مزالقها، وأن التدفقات الرأسمالية عبر الحدود لا هي نعمة تامة ولا نقمة مؤكدة، فمن خلال استخدامها بحكمة، يمكن تحقيق منفعة تعود على البلدان المتلقية لها، والتعويض عن أوجه القصور الناجمة عن توافر رأس المال المخاطر طويل الأجل وتقليص الفجوات في حوكمة الشركات المحلية. ويمكنها كذلك أن تعود بالمنفعة على البلدان التي صدرت منها، حيث توفر سبلا لاستثمار المدخرات التي تولدها شيخوخة السكان.
وبطبيعة الحال، التدفقات الرأسمالية يمكن كذلك أن تكون مصدر مشكلات، فقد تأتي في وقت غير مناسب، وتضيف مزيدا من الائتمان في فترة تشهد انتعاشا استثماريا كبيرا وتنجم عنها فقاعات أسعار الأصول، وقد تأتي في شكل غير مناسب - يحتفظ بها كمطالبات قصيرة الأجل على الشركات أو على الحكومة، مع خيار المغادرة لحظة الإشعار. وقد تغادر في وقت غير مناسب، حينما تعود من حيث أتت إذا أغرتها أسعار الفائدة الأعلى في بلدانها، وليس عندما تكتمل المشروعات في البلدان التي جاءت إليها. والتدفقات الرأسمالية عبر الحدود مثل الديناميت، طريقة استخدامها هي التي تحدد الحكم عليها أنها جيدة أو سيئة. ولسوء الحظ، لا يبدو أن هناك علاجا واضحا في جعبة السياسات لترويض التدفقات الرأسمالية الداخلة. حتى إذا كان هناك علاج، فالمؤسسات في البلدان المتلقية لهذه التدفقات لا تكون في الأغلب على مستوى هذه المهمة - فمن الصعب حتى على أكثر صناع السياسات إحساسا بالمسؤولية أن يرفضوا أموالا سهلة المنال.
إن البلدان المتلقية لهذه الأموال ليست الطرف المعني الوحيد، فهناك عامل له أهمية خاصة في "دفع" و"جذب" التدفقات الرأسمالية العابرة للحدود، هو موقف السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة. وينتقل تيسير السياسة النقدية إلى البلدان المتلقية عبر التدفقات الرأسمالية، وارتفاع سعر صرف العملة، وزيادة الاقتراض، وارتفاع أسعار الأصول المالية والعينية. وتنقلب كل هذه الأحوال عندما تتشدد السياسة النقدية، وإن كان بفرق واضح. تراكم قروض الشركات والحكومة في البلدان المتلقية للتدفقات في مرحلة التيسير يؤدي إلى الهشاشة المالية أثناء مرحلة التشديد.
فما الذي في وسع اقتصادات الأسواق الصاعدة أن تفعله للحد من المخاطر المصاحبة لتدفقات رؤوس الأموال الكبيرة المستمرة؟ وما المسؤولية التي يتعين على البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة أن تتحملها مقابل تأثير سياساتها النقدية في الخارج؟ وما الخطوات التي يمكن أن تتخذها للحد من هذا التأثير؟ وهل للمؤسسات المالية الدولية - مثل صندوق النقد الدولي - دور؟
للرد على هذه التساؤلات، يتعين علينا أن نفهم ما يحدث عندما يشهد أحد اقتصادات الأسواق الصاعدة دخول تدفقات رأسمالية متواصلة من الخارج. ومن المفيد تشبيه هذا الوضع بتجربة شركة ما في مرحلة انتعاش ائتماني محلي. واستمرار التوقعات بارتفاع السيولة مستقبلا "بمعنى أن المشترين المحتملين للأصول هم من الأغنياء وفي وسعهم شراء أصول الشركات بأسعار عالية"، يمكن أن يحفز الشركات على الاعتماد على الدين؛ ومن منظور المقترض، هناك ترحيب دائم بتمويل الدين، لأنه يسمح للمقترض بإدارة مشروعه مع تعريض أقل قدر من أمواله للمخاطر. ومن منظور المقرض، فإن السيولة العالية المتوقعة تسهل عليه استرداد الدين - وفي حالة عدم سداد المقترض، بإمكان المقرض مصادرة أصول الشركة وبيعها لطرف آخر. مع ذلك، فاقتران المستوى العالي من التمويل بسعر عال بالديون وتوقعات السيولة العالية، يحد من الحوافز أمام الإدارة على وضع هياكل لاحتواء سوء السلوك الإداري. والسبب هو: إذا كانت هناك توقعات بوفرة التمويل، لماذا تضع هياكل مكلفة وتفرض قيودا "مثل القواعد المحاسبية السليمة وتدقيق غير محل شك" من شأنها رغم هذا أن توفر مزيدا من التمويل؟
وتساعدنا المقارنة بطفرات أسعار المساكن على تفسير هذه الديناميكية. إذا عرف المقرض العقاري منزلا يمكن إعادة امتلاكه وبيعه بسعر يحقق له أرباحا لأن المساكن تباع بسرعة وبأسعار مرتفعة، فما الحاجة - إذن - إلى التحري عن مقدمة طلب القرض العقاري لمعرفة ما إذا كان لديها وظيفة أو دخل؟ فالضمانات العادية والعناية الواجبة في معرفة الهوية اللازمة لمنح القروض يتم التغاضي عنها في أوقات توقعات السيولة العالية. وكان من نتائج ذلك أثناء فقاعة المساكن في الولايات المتحدة ما عرف بـ"قرض النينجا"، الذي منح لمقترضين دون دخل أو وظيفة أو أصول.
لا يمثل تدهور الحوكمة مشكلة عندما يكون ارتفاع السيولة متواصلا، لكنه يتحول إلى مصدر للمشكلات عندما تجف السيولة، نظرا إلى عدم توافر إلا أقل القليل آنذاك لدعم قدرة الشركات على الاقتراض. وبعبارة أخرى، توقعات السيولة العالمية تمهد الأجواء لاعتماد الشركات على السيولة المستمرة مستقبلا ومن ثم تجديد ديونها، وإذا لم يتحقق ذلك، تشهد توقفا مفاجئا. يمكن أن يحدث ذلك حتى إن ظلت الآفاق الاقتصادية أمام الشركات براقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي