تحولات كبيرة في النشاط الاقتصادي العالمي
أود الحديث هنا عن التحولات الجارية في المشهد الاقتصادي العالمي. فمنذ اجتمعت وفود تلك البلدان الـ44 في بريتون وودز، توسع "الصندوق" حتى أصبح يضم الآن 189 بلدا عضوا، تمثل كل الاقتصاد العالمي تقريبا. ويعني هذا أننا أصبحنا قادرين على معالجة القضايا على نطاق عالمي، كما يعني أن أدوار ومصالح بلداننا الأعضاء تتغير أيضا.
فصعود نجم الصين واقتصادات أخرى يحدث تغيرا جوهريا في المشهد العالمي. ومع نمو اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية وتقارب مستويات الدخل، من المتوقع أن تهبط حصة الاقتصادات المتقدمة في الناتج العالمي من أكثر من النصف إلى نحو الثلث على مدار الـ25 سنة المقبلة.
وسيستهلك كبار السن في الاقتصادات المتقدمة مدخراتهم بالتدريج في الوقت الذي تحتاج فيه البلدان صاحبة النسبة الأكبر من الشباب إلى تمويل استثماراتها. وفي المستقبل غير البعيد، من المرجح أن تصبح قضايا الشيخوخة موضع اهتمام في كل أنحاء العالم، مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتراجع معدلات الخصوبة. وسيكون لهذا انعكاسات عميقة على التجارة العالمية وتدفقات رؤوس الأموال. وستتحول مراكز النشاط الاقتصادي على مدار العقود القادمة. وستزداد أهمية المراكز المالية الجديدة. وفي نهاية المطاف، قد تظهر عملات جديدة للاحتياطي.
وفي سياق كل هذه التطورات، من واجبنا أن نحافظ على نظام نقدي دولي مستقر وقوي بما يكفي لتيسير عمليات التكيف الاقتصادي المصاحبة لهذه التحولات.
وتمثل التجارة الحرة وأسعار الصرف المرنة وحركات رؤوس الأموال غير المربكة مقومات أساسية لازدهار الاقتصاد العالمي. ولهذا سيكون دور المؤسسات متعددة الأطراف، خاصة صندوق النقد الدولي، أهم من أي وقت مضى. إذا واصلنا التكيف مع المستجدات. ولحسن الحظ أن مؤسسينا الأوائل كانوا من الحكمة بحيث أدخلوا في حوكمة "الصندوق" نظاما قائما على الحصص. فقد أدركوا أن تطبيق نظام الصوت الواحد لكل بلد عضو يستند إلى منطق خادع بالنسبة لمنظمة كمنظمتنا. فعلى مدار تاريخنا حتى المستقبل، يسمح هذا المنهج بتعديل نظام الحوكمة مع الصعود الاقتصادي للبلدان الأعضاء التي تتزايد بسرعة، ومع تطور مصالحها ومسؤولياتها. وكثير من المنظمات الدولية لا تتمتع بهذه المرونة الداخلية، وترى أن بعض بلدانها الأعضاء يفتقر إلى التأثير الذي يستحقه.
لكن حوكمة "الصندوق" يجب أن تستمر في التطور. وحتى يتحقق هذا، يجب أن يظل "الصندوق" مؤسسة قائمة على الحصص. ويجب أن نأخذ في الحسبان أن صيغ حصصنا لم تواكب التطور بشكل كامل. ولا يمكن أن نتوقع الحفاظ على امتداد عملنا لكل أنحاء العالم واحتفاظنا بما نحتاج إليه من موارد ما لم تنل البلدان التي تزداد أهميتها الاقتصادية، والتي تصبح مستعدة للاضطلاع بمسؤولية تتناسب مع وضعها الجديد، ويكون لها صوت متناسب أكثر تأثيرا في قرارات "الصندوق".
وبالمثل، علينا الاستمرار في تطويع أدوات "الصندوق" وسياساته لمعطيات هذا الواقع الاقتصادي المتغير. ويمثل إدخال اليوان الصيني ضمن سلة حقوق السحب الخاصة منذ بضع سنوات إثباتا لقدرتنا على التغير وفق متطلبات العصر.
وخلاصة القول، إنه كلما أصبحت القوة الاقتصادية أكثر تنوعا وانتشارا، فمن المرجح أن يصبح استمرار التركيز على تحدياتنا المشتركة أكثر صعوبة. ومن ثم، فإن دور "الصندوق" الأساسي كجهة عالمية لتجميع الجهود ومستشار مؤتمن ومكافح للحرائق المالية، سيصبح أهم من ذي قبل في الأيام المقبلة.
ولكن ماذا عن التغيرات الأخرى في الاقتصاد العالمي؟
إن التكنولوجيا تتيح فرصا هائلة لرفع مستوى الإنتاجية وزيادة الدخول. لكنها تؤدي أيضا إلى حدوث تغيرات هيكلية -فتنشئ وظائف جديدة وتقوم بإحلال وظائف أخرى.
وقد نبه اللورد كينز نفسه في ثلاثينيات القرن الماضي إلى احتمالات "البطالة التكنولوجية". ولكنه كان مقتنعا بأنها ستقود إلى عالم مرتفع الدخل يختار فيه الناس قضاء وقت فراغ أطول من وقت العمل.
لكن الأمور أخذت منحى مختلفا. فالناس قلقون من أن تؤدي إنجازات التقدم التكنولوجي المتلاحقة، على غرار الذكاء الاصطناعي مثلا، إلى تعريض وظائفهم ودخولهم للخطر.
إن ما نسميه "التكنولوجيا المالية" Fintech يتيح إمكانية تعزيز الكفاءة والشفافية بدرجة كبيرة في القطاع المالي. وتنشأ عن ذلك تحديات أمام الأطراف الفاعلة المستقرة، والأجهزة التنظيمية التي تسعى لمعالجة مصادر الخطر الجديدة.
هناك مخاطر حقيقية جدا تواجه هذه التطورات، ومنها التهديدات الجسيمة التي تجلبها الهجمات الإلكترونية والجرائم الإلكترونية. لكننا على أعتاب تحول يمكن أن يحقق منافع هائلة.
فمن خلال تشجيع المنافسة، يمكننا المساعدة على إعادة توجيه صناعة الخدمات المالية، كي تقوم بدور أفضل في خدمة الاقتصاد العيني ودعم جهود إيجاد الوظائف.
ولننظر إلى قدرة التكنولوجيا المالية على وضع نهاية للإقصاء المالي الذي يطول 1,7 مليار نسمة في البلدان النامية لا تتاح لهم الخدمات المصرفية.