الوظائف الخضراء وحماية البيئة «2 من 3»

خسرت صناعة الوقود الأحفوري ملايين من الوظائف على مدى العقود الأخيرة، خاصة في قطاع الفحم، حيث لم يبق إلا 9.8 مليون وظيفة في عام 2014 Greenpeace International and others, 2015. ولم تكن هذه الخسائر ناتجة من سياسات المناخ، بل تسببت فيها زيادة الإنتاجية في مناجم الفحم والتجارة الدولية. وتشير المقارنة المباشرة إلى تحقيق كسب صافٍ عندما يبدأ إحلال الطاقة المتجددة محل الوقود الأحفوري، وهو ما يتأكد بالنظر إلى الاقتصاد على نطاق أوسع. فتعبئة خزان الوقود في سيارة واستخدام الكهرباء في شبكة كهرباء قائمة على الوقود الأحفوري أو الوقود النووي لا يولدان عددا كبيرا من الوظائف، لا في قطاع الطاقة ولا بين مورديه، إذ تتيح هذه القطاعات وظائف أقل بكثير مما يتيحه متوسط الإنفاق الاستهلاكي. وعلى العكس من ذلك، تتيح الطاقة المتجددة والاستثمار في كفاءة استخدام الطاقة وظائف أكثر من الطلب على السلع والخدمات الأخرى.
فكيف إذن يتأثر عدد الوظائف الصافي بتكلفة الطاقة المتجددة، واحتمال الاحتياج إلى استيراد المعدات؟ لقد انخفضت تكلفة الطاقة المتجددة بسرعة غير متوقعة على مدار العقد الماضي. وتشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة إلى أن مصادر الطاقة المتجددة أصبحت بالفعل أرخص السبل لتوفير الطاقة لمن لا تتاح لهم الطاقة النظيفة، وعددهم 1.3 مليار نسمة معظمهم في إفريقيا وجنوب آسيا IRENA,2013. كذلك تتميز طاقة الرياح بجدواها التجارية في عدد متنامٍ من البلدان - مثل البرازيل والولايات المتحدة وأوروبا - ولها شبكات كهرباء واسعة النطاق ومتنوعة.
وبينما كانت مصادر الطاقة المتجددة هي محور التركيز الأساسي في النقاش الدائر حول تغير المناخ وتوظيف العمالة، كان الاهتمام أقل كثيرا بجهود إزالة الكربون كمصدر آخر أهم لفرص العمل. ومن الممكن تقنيا والمجدي اقتصاديا أن يحقق هذا المصدر مكاسب كبيرة على صعيد الكفاءة في مجالات الصناعة والإسكان والنقل والخدمات. وتستطيع منشآت الأعمال تحقيق ربح منها، كما تستطيع الأسر الاستمتاع بوفورات حقيقية بفضلها. وإضافة إلى ذلك، يؤدي إنفاق الفائض على أشياء غير الطاقة الأحفورية إلى إعطاء دفعة لتوظيف العمالة في أي اقتصاد.
فعلى سبيل المثال، تستورد الولايات المتحدة ذات الاقتصاد المتنوع كميات كبيرة من المعدات لأغراض الطاقة المتجددة. وفي دراسة صدرت أخيرا، نظر الباحثون بدقة في الآثار التي تحدث على مستوى الاقتصاد إذا خفضت الانبعاثات بنسبة 40 في المائة بحلول عام 2030 من خلال مزيج من الطاقة النظيفة والكفاءة في استخدام الطاقة, Pollin and others 2014 . وخلصت الدراسة إلى أن استثمار 200 مليار دولار سنويا في هذا الغرض يمكن أن يحقق زيادة صافية قدرها نحو 2.7 مليون وظيفة، منها 4.2 مليون وظيفة في قطاعات السلع والخدمات البيئية وسلاسل التوريد المرتبطة بها، مع خسارة 1.5 مليون وظيفة في القطاعات المتناقصة التي تعتمد على الوقود الأحفوري والطاقة الكثيفة. ومن شأن العدد الصافي من الوظائف الجديدة الذي يبلغ 2.7 مليون وظيفة أن يخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة بحلول عام 2030 بما يقرب من 1.5 نقطة مئوية - كأن ينخفض من 6.5 في المائة إلى 5 في المائة على سبيل المثال. ويعد معدو الدراسة هذا التقدير متحفظا، لأنه لا يأخذ في الحسبان، على سبيل المثال، عدد الوظائف التي من المرجح إضافتها بفضل إعادة استثمار الوفورات، التي يراوح عددها بين 1.2 و1.8 مليون وظيفة. وانتهت دراسات أخرى إلى نتائج مشابهة. فقد خلص استعراض لـ 30 دراسة شملت 15 بلدا والاتحاد الأوروبي ككل إلى تحقق زيادات صافية فعلية أو محتملة بأحجام لا يستهان بها في مجال التوظيف, Poschen 2015 . ومعظم الدراسات التي تركز على مستهدفات للانبعاث تتمشى مع الطموحات المعلنة حول عقد اتفاق في باريس في كانون الأول (ديسمبر) المقبل تخلص إلى إمكانية تحقيق زيادات صافية بواقع 0.5 إلى 2 في المائة من التوظيف الكلي، أي 15 إلى 60 مليون وظيفة إضافية. وقد تبين في اقتصادات أسواق صاعدة مثل البرازيل والصين وموريشيوس وجنوب إفريقيا أن الاستثمار المراعي للبيئة يعجل النمو الاقتصادي وتوظيف العمالة مقارنة باستمرار الوضع على ما هو عليه. وتشير عدة دراسات إلى أن وضع أهداف مناخية أكثر طموحا من شأنه تحقيق مكاسب أكبر في مجال التوظيف.
وإضافة إلى الوظائف الجديدة، يمكن تحقيق مكتسبات أخرى في مجال التوظيف والمجال الاجتماعي باتباع سياسات مناخية نشطة. فمع زيادة الإنتاجية والاستدامة في قطاعات حيوية بالنسبة إلى المناخ، مثل الزراعة والتشييد وإدارة النفايات، يمكن، على سبيل المثال، انتشال مئات الملايين من صغار المزارعين من براثن الفقر ILO, 2012.
ولكن هناك أمرا آخر جديرا بالانتباه، وهو أنه إضافة إلى أهداف تخفيض الانبعاثات في حد ذاتها وتعميم التكنولوجيا اللازمة لتحقيقها، تسهم السياسات بدور حاسم في تحديد النتائج على الاقتصاد والتوظيف. وقد هيمنت الأسعار لوقت طويل على النقاش الدائر بين الاقتصاديين حول الأدوات المناسبة لسياسات المناخ الفعالة وغيرها من السياسات البيئية، واستقر الرأي منذ أمد بعيد على أن تحديد الأسعار بما يعبر عن الحقيقة - أي جعلها معبرة عن كامل التكلفة الاقتصادية لاستهلاك سلعة أو خدمة ما، بما في ذلك الأثر السلبي في المناخ - إنما هو المفتاح لتغيير الاقتصادات دون زعزعة استقرار النظام المناخي للكوكب بأشكال لا يمكن السيطرة عليها. ولا يجادل كثيرون في أن التسعير الصحيح عنصر ضروري في أي سياسة مناخية فعالة، ولكنه قد لا يكون كافيا. فبالنسبة للنتائج المتعلقة بالتوظيف، من المهم أيضا كيفية التوصل إلى الأسعار الصحيحة. وتظهر جميع الدراسات أنه يمكن الجمع بين تخفيض الانبعاثات وتوفير وظائف جديدة عن طريق إصلاح الضرائب البيئية eco-tax الذي ينقل العبء من العمالة والدخل - بخفض الرسوم التي تحصل عن الأجور والدخل - إلى الانبعاثات واستهلاك الموارد، باستخدام أدوات مثل ضرائب الكربون.
ويمكن الاستعانة أيضا بعائدات الضرائب البيئية في تبديد ثلاثة آثار سلبية تترتب على الانتقال إلى اقتصاد مراعٍ للمناخ. وأول هذه الآثار هو فقد وظائف في بعض القطاعات مثل مناجم الفحم وتوليد الكهرباء من الفحم والصناعات الثقيلة والنقل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي