Author

وضع الاتحاد الأوروبي ليس ورديا

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"لا مجال إلا لإصلاحات شاملة في منطقة اليورو"

إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا

الذي يرى الفوضى السياسية في بريطانيا، والاضطراب في صناعة القرار على ساحتها، وعدم وضوح الرؤية، بل عدم وجود الرؤية، ربما يعتقد أن هذا حكر على المملكة المتحدة في أوروبا. لكن الأمر ليس كذلك. فعدم وضوح الرؤية حول مستقبل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو سائد في القارة، وهذا لا دخل له بمسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. والخلافات بين زعماء بلدان محورية في الاتحاد موجودة، وتتزايد في أحيان كثيرة. والتوتر ضمن مؤسسات الاتحاد حاضر على الساحة. هذا الحال يشمل حتى أولئك السياسيين الأوروبيين المتناغمين مع بعضهم البعض. فمثلا العلاقة التي تجمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قوية ومتجانسة، لكن التطابق حول مستقبل أوروبا لا يزال غائبا بينهما.
الشعبويون واليمينيون المتطرفون في أوروبا، استغلوا قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للترويج لسلوكياتهم الانفصالية. هذه واحدة من أكبر البلدان الأوروبية، تستعد للخروج من هذا الاتحاد، يعني أن هذا الأخير يواجه مشكلات كبيرة، وغير ملائم للمرحلة المقبلة. ومنذ استفتاء الخروج البريطاني قبل ثلاث سنوات تقريبا، صار الخطاب اليميني الأوروبي لا يتناول إلا الأزمات والفجوات في الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن المطالبات بالانسحاب. وبلغ الأمر حدا أن انضم انفصاليون أوروبيون إلى حراك الانفصاليين البريطانيين، والهدف الرئيس ليس سحب بلدانهم من الاتحاد الأوروبي، بل العمل على تدمير الاتحاد بكل الوسائل السياسية الممكنة. لكن الأمر لا يمضي كما يشتهي هؤلاء، وإن استطاعوا توسيع دائرة شعبيتهم في هذا البلد الأوروبي أو ذاك.
لا تزال القواعد والأسس للاتحاد متينة. والفوائد الناجمة عنه واضحة، باستثناء الآثار التي يتركها عادة اللاجئون أو المهاجرون هنا وهناك. علما بأن تيارات سياسية حاكمة أو ذات حضور قوي تنظر إلى هذه المسألة بصورة إيجابية، مستندة إلى أهمية دور هؤلاء في الحراك التنموي العام. إلا أن كل هذا لا يلغي الخلافات بين قادة الاتحاد الأوروبي حول طبيعة الحراك المقبل، وشكل هذا الكيان المستقبلي. وهذه الخلافات ظهرت بوضوح من خلال تصريحات علنية لرئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر قال فيها "إن ألمانيا وهولندا والنمسا، تقف حجر عثرة أمام تعميق تكامل منطقة اليورو". وهذا الكلام خطير، ليس فقط لأنه آت من رئيس المفوضية نفسه، بل لأنه يضع دولة مثل ألمانيا في جانب، وأخرى كفرنسا في جانب آخر.
وكما هو معروف فإن فرنسا تبقى الدولة "الأم" – إن جاز التعبير- للاتحاد الأوروبي، كما أنها تشكل مع ألمانيا منذ عقود تحالفا، تكمن أهميته في أنهما الأكبر على الساحة الأوروبية، دون أن ننسى أنه حتى بوجود بريطانيا في الاتحاد، تظلان الأكبر بحكم كونهما ضمن منطقة اليورو، التي لم تنضم المملكة المتحدة لها أساسا. إيمانويل ماكرون عنده استراتيجية معلنة حقا، تستند إلى سلسلة من الإصلاحات الشاملة لمنطقة اليورو. والرئيس الفرنسي يرغب في ذلك، في حين ترى بعض دول شمال أوروبا ضرورة تعطيل الاندفاع الفرنسي هذا، بصرف النظر عن أي مبررات. وتعبير الشمال الأوروبي يعني في الواقع الشمال الثري، في حين أن الجنوب الأوروبي أقل ثراء، أو حتى في بعض الحالات يمكن اعتبار بعض البلدان فيه في عداد الفقراء.
السبب وراء تعطيل بلدان كألمانيا والنمسا وهولندا لحراك الرئيس الفرنسي، أنها لا تريد أن تربط نفسها بصورة وثيقة باقتصادات أضعف في أوروبا. وهذا يعيد إلى الأذهان الأزمات المالية التي وقعت فيها كل من إسبانيا والبرتغال وإيرلندا واليونان، وكيف أقدمت البلدان الغنية الأخرى "وعلى رأسها ألمانيا" على إنقاذها. البلدان الغنية لا تريد مزيدا من الأعباء، علما بأن إنقاذها للدول المشار إليها يأتي أساسا ضمن إطار أشمل وأعم يتعلق بإنقاذ الاتحاد الأوروبي نفسه. أي أن المسألة ليست كما تبدو للوهلة الأولى. ما يعكر صفو الحراك الأوروبي حاليا، بعد قضية خروج بريطانيا من الاتحاد، هو المواقف المتباينة بين الدول الأكثر تأثيرا في هذه الساحة حيال الإصلاحات الفرنسية المشار إليها.
بالطبع، إصلاحات ماكرون ليست سطحية، بل تستهدف العمق إلى درجة أنها تحاكي بصورة أو بأخرى ما يمكن وصفه بـ"الفيدرالية الأوروبية". وهذه الأخيرة كانت، ولا تزال، حلما فرنسيا منذ عقود، ما يبرر، مثلا، أحاديث الرئيس الفرنسي الأخيرة عن ضرورة إنشاء الجيش الأوروبي الموحد، وغير ذلك من عناصر الوحدة بشكلها الفيدرالي. وهذه النقطة على وجه الخصوص هي التي تخيف الدول الغنية ضمن نطاق الاتحاد. فهي ليست مستعدة لمثل هذا التحول، حتى ولو كان تحت مسميات تخفيف البيروقراطية. إلا أن الإصرار الفرنسي لن يتراجع. وهناك مسلَّمة معروفة، أن قصر الإليزيه يحلم بفيدرالية أوروبية بصرف النظر عمن يسكنه. لكن الأمر لن يكون كذلك إذا ما سكنه أحد من التيار اليميني المتطرف، وإن كان من المستبعد حدوث ذلك أصلا.

إنشرها