Author

سياسات التنمية ودور الجامعات

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

تحمل كلمة سياسة Policy، من الناحية اللغوية، معاني عديدة لكنها متكاملة. فهناك معاجم عربية وإنجليزية تشير إلى أن معاني كلمة "سياسة" تشمل "الإرشاد، والتوجه، والسلوك، واكتساب أدب التعامل، والحكمة في الإدارة، ووثيقة اتفاق يطلب تنفيذه"؛ كل هذه المعاني متقاربة، بل متكاملة أيضا. ويلاحظ أن هذه المعاني ليست وصفا لحالة ساكنة لا تتغير، وإنما تتضمن في جوهرها "حس الحركة" أي وجود توجه نحو القيام "بعمل" مطلوب في مجال من المجالات. يضاف إلى ذلك أن هذا العمل المطلوب ليس عشوائيا، وإنما هو عمل موجه ومرتب مسبقا، يتطلع في الأغلب إلى تحقيق هدف مستقبلي. وعلى الرغم من كل هذه المعاني، إلا أن كلمة سياسة ليست كلمة مستقلة بذاتها، بل تحتاج إلى "موضوع" يقترن بها مثل "التعليم أو الصحة أو البيئة" أو غير ذلك من قضايا الحياة العامة التي تحتاج إلى سياسة تقودها نحو هدف يسعى إلى مستقبل أفضل.
ولا شك أن معظم قضايا الحياة تحتاج إلى تنمية وتطوير من أجل مستقبل أفضل، خصوصا في عصر العولمة الذي نعيشه، والتنافس الكبير الذي يشهده. وعلى ذلك فإن هذه القضايا تحتاج إلى سياسات، وهذه السياسات تتطلب بدورها إرشادا وتوجيها ويحتاج ذلك إلى دراسات وبحوث تسلك مسارا علميا موضوعيا يحقق لها أفضل النتائج. ومن للقيام بذلك أفضل من الجامعات التي تستند في أعمالها إلى مؤهلات معرفية متميزة، تجمع بين أجيال وعقول متعددة من الباحثين المختصين والمتدربين الطموحين في شتى مجالات الحياة؟
وهناك بالفعل جامعات حول العالم تهتم بالإسهام في تقديم سياسات تنمية مدروسة في شتى المجالات التي تهم الجميع، ليس فقط من إطار الدولة التي تنتمي إليها، وإنما من أجل دول أخرى حول العالم. ومثال ذلك "جامعة هارفارد Harvard Univ" الأمريكية الشهيرة التي سنتحدث فيما يلي عن دور لها في هذا المجال.
تحتل جامعة هارفارد مكانة متقدمة بين جامعات العالم، فهي صاحبة أعلى الأوقاف بين جامعات العالم، وفيها كلية خاصة بالسياسات الحكومية تحمل اسم "كندي" Kennedy أحد رؤساء أمريكا السابقين، وأحد خريجي هارفارد. في هذه الكلية وحدة تدعى "الدليل لتصميم السياساتEvidence for Policy Design: EPoD. ولهذه الوحدة رؤية تصف طموحاتها قائلة إنها "عالم تقود الأدلة فيه التطور المستمر في الدول والأنظمة والمجتمعات نحو حياة أفضل". تركز هذه الوحدة على "تصميم سياسات التنمية والتطوير في القضايا العامة". وتقوم من أجل ذلك بتقديم دورات ومقررات تعليمية، وتنفيذ بحوث ودراسات، إضافة إلى تقديم مبادرات وعقد اتفاقيات مع الدول، ليس فقط لإجراء دراسات في سياسات التنمية والتطوير، بل لإدارة وتوثيق مثل هذه الدراسات أيضا عبر التعاون مع باحثين آخرين ينتمون إلى جهات أخرى.
تتضمن الموضوعات التي تلقى اهتمام وحدة "الدليل لتصميم السياسات" الآتي: "التعليم، والصحة، والطاقة، والبيئة، والحماية الاجتماعية، والاستيعاب المالي، والمهارات ونمو الوظائف، وريادة الأعمال، والحوكمة ودور المواطن، وغير ذلك من موضوعات عامة". وتحرص هذه الوحدة على أن يكون عملها قريبا من أصحاب العلاقة القائمين على الموضوعات في الدول المطروحة للدراسة؛ وتعبر عن ذلك بالقول التالي: "إن القائمين على العمل في الوحدة من أساتذة وطلاب وباحثين يرون أن أفضل الطرق لتحقيق النجاح هي تلك التي تتضمن العمل مباشرة مع متخذي قرارات السياسات والمسؤولين عن تنفيذها". ومن هذا المنطلق تهتم الوحدة بمحورين رئيسين: "محور البحث المنطلق من أرض الواقع؛ ومحور الابتكار وبناء الإمكانات البشرية".
تكمن فائدة "البحث المنطلق من أرض الواقع" في أنها تبتعد عن الفرضيات الانطباعية التي تحاول الاقتراب من الواقع وهي بعيدة عنه. حتى إذا بدأ العمل بالفرضيات فلا يلبث عند الانطلاق من الواقع، أن يسعى إلى التحقق من صحتها. أما فائدة "بناء الإمكانات البشرية" فهي ضمان لإمكانية استمرار العمل في المستقبل دون انقطاع. فإن تم تنفيذ سياسة معينة خلال فترة محددة، فإن سياسة مكملة يمكن أن تنشأ لتتابع التطور عبر الإمكانات البشرية التي يتم العمل على بنائها. وهناك طريقة تستخدمها الوحدة في وضع السياسات المطلوبة على أساس الأدلة، لعلنا نقوم بطرحها في مقال مقبل -بإذن الله.
تدير الوحدة على المستوى الدولي مشاريع تهتم بوضع سياسات عامة في دول مختلفة عبر جامعات ومؤسسات أخرى تحت إشراف الوحدة. ويشمل هذا الإشراف الموافقة على الدراسات، ثم التحقق من نتائجها. ويتم ذلك عبر اتفاقيات مع الدول المعنية على المشاريع المطروحة من جهة، واتفاقيات مع الجهات البحثية على تنفيذ دراسات هذه المشاريع من جهة أخرى. ولعل أبرز المشاريع القائمة حاليا؛ مشروع يطرح "المشكلات المالية" في "الهند" و"نيبال" ويسعى إلى وضع سياسات بشأنها؛ ومشروع آخر مع باكستان يختص بشؤون التعليم؛ ثم مشروع ثالث مرتبط بالمملكة، ويركز على سوق العمل وشؤون التوظيف فيها.
إن ما تقوم به "هارفارد" من نشاطات، في إطار ما سبق على المستوى الدولي، يعطيها دائرة تأثير واسعة لا تقتصر على دولة أمريكا التي تنتمي إليها، بل تمتد لتشمل العالم بأسره. ولا شك أنها سعيدة بهذه النشاطات، ليس فقط بسبب العوائد المالية التي تحصل عليها من خلالها، بل لأن هذه النشاطات تسهم في تحقيق أهدافها كمؤسسة معرفية عالمية تفعل المعرفة وتنشرها على نطاق واسع، مؤثرة بذلك في عقول متميزة ومجتمعات مختلفة حول العالم.
ولعله يمكن هنا ملاحظة أن هذا الدور الذي تقوم به "هارفارد"، وربما جامعات متميزة أخرى، على المستوى الدولي، يأتي محظوظا بسبب عدم إقدام الجامعات المحلية في كثير من دول العالم على أداء ما يماثله، وترك الساحة مفتوحة على المستوى الدولي دون منافسة محلية فاعلة. يأتي هذا الأمر على الرغم من أن الجامعات المحلية تتمتع بكونها الأقرب إلى "الانطلاق من أرض الواقع"، والأقرب أيضا من أصحاب العلاقة في "بناء الإمكانات البشرية". والأمل هنا أن تسعى جامعاتنا إلى دور أكبر في "تصميم سياسات التنمية"، وفي "العمل على وضعها موضع التنفيذ".

إنشرها