المصرفيون والنصائح السياسية
هناك مناطق قليلة من النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة أكثر تسييسا من تمويل الإسكان. ورغم هذا، فإن اليسار الفكري كان بالغ التأني في إعفاء الجهات التنظيمية، وتفويضات الإقراض الحكومي، ووكالات، مثل: فاني ماي، وفريدي ماك، من أي مسؤولية عن طفرة الازدهار وما أعقبها من انهيار.
والأساس المنطقي هنا واضح: إذا تم تحميل المسؤولين والمؤسسات والسياسات المسؤولية عن هذا، فإن أجندة الإصلاح ستتحول بالضرورة من تنظيم عمل المصرفيين الجشعين والمكافآت التي يحصلون عليها، إلى طرح تساؤلات أوسع نطاقا. فهل تسهم الصلاحيات الحكومية في نشوء السلوكات السيئة من قِبَل جهات فاعلة خاصة؟ وهل يمكننا أن نأتمن القائمين على تنظيم المفاضلة بالشكل اللائق بين الاستقرار المالي والسياسات التي تحظى بدعم سياسي واسع النطاق؟ بل هل تستطيع البنوك المركزية أن تكون مستقلة حقا؟ إن عدم التشكيك في قبول منح الحكومة دورا أكبر في ترويض الأسواق، يفسح المجال أمام التساؤل عما إذا كان ذلك الدور قد يتحول في بعض الأحيان إلى جزء من المشكلة.
كانت مهمة اليسار سهلة في الهيمنة على المناقشة، ويرجع هذا جزئيا إلى أن محاولات اليمين الفكري إلقاء كل اللوم عن الأزمة على الحكومة غير قابلة للتصديق على الإطلاق. ولعل الحجة التي كانت لتصبح أكثر قبولا وصحة أن نزعم أن الجميع -المصرفيين، والأسر، والجهات التنظيمية، والساسة- أسهموا، ونسبوا إلى أنفسهم الفضل، في حدوث الطفرة طيلة مدة بقائها، ثم انقلب منهم من يوجه أصابع الاتهام إلى الآخرين بعد انهيار الطفرة.
ولكن إصغاء المصرفيين إلى النصائح السياسية في أعقاب الأزمة -حيث تقبلوا عمليات الإنقاذ العامة أولا، ثم دفعوا لأنفسهم علاوات ومكافآت ضخمة وكأن شيئا لم يتغير- ضمن تحملهم نصيب الأسد من اللوم، مع استعداد كل الأطراف الأخرى لارتداء زي الضحية الغافلة. ونتيجة لهذا فإن استجابة السياسة العامة كانت خاضعة لهيمنة سرد مفادها أن "المصرفيين هم السبب". ومكمن الخطر هنا هو أن هذا التوجه منقوص، وبالتالي فمن غير المرجح أن يكون فعّالا.
لذا فقط كان من المشجع أن نرى دراسة اقتصادية رزينة تتعامل مع تأكيد من قِبَل بول كروجمان، الذي ربما يكون الخبير الاقتصادي اليساري الأكثر نفوذا في الولايات المتحدة، بأن "قانون إعادة الاستثمار المجتمعي لعام 1977 لم يكن وثيق الصلة بطفرة ازدهار الرهن العقاري الثاني". يوجه قانون إعادة الاستثمار المجتمعي الهيئات الإشرافية المالية الفيدرالية إلى ضرورة تشجيع المؤسسات التي تقوم على تنظيمها بمساعدة المجتمعات التي يفترض في هذه المؤسسات أن تلبي احتياجاتها الائتمانية، في حين تؤكد أيضا "سلامة وصحة" المعايير. وفي الممارسة العملية، تقوم الجهات التنظيمية بقياس حجم الإقراض على المساحات التي يستهدفها قانون إعادة الاستثمار - المناطق الفقيرة التي يقل دخلها في المتوسط عن 80 في المائة من متوسط دخل المجتمع المحلي - فضلا عن المقترضين من الأقليات وذوي الدخول المنخفضة في المناطق التي لا يغطيها القانون للتحقق من الامتثال له.
لقد رفض اليسار أي زعم بأن هذا القانون أدى دورا في طفرة الإسكان من خلال الإشارة إلى صدوره في عام 1977، في حين بدأت طفرة الرهن العقاري الثانوي في وقت مبكر من بدايات القرن الـ21، ولكن هذا يتجاهل احتمالا مفاده بأن الجهات التنظيمية ربما بدأت في إنفاذ هذا القانون بقوة في وقت لاحق.
ولإنفاذ القانون، فإن الجهات التنظيمية تقوم دوريا باختبار امتثال المصارف بقانون إعادة الاستثمار المجتمعي. ولشحذ تأثير عملية "الفرض التنظيمي"، تقوم الدراسة الحديثة بمقارنة سلوك المصارف الخاضعة للفحص، الذي يتم على مدى عدة أرباع من السنة، بسلوك المصارف غير الخاضعة للفحص في منطقة معينة وشهر بعينه.
والنتائج واضحة. فمقارنة بالمصارف غير الخاضعة للفحص، كان حجم القروض التي قدمتها المصارف في المناطق الست المحيطة باختبار قانون إعادة الاستثمار المجتمعي أعلى 5 في المائة، وكانت هذه القروض أكثر عُرضة للجنوح بـ15 في المائة أعلى بعد عام واحد من تقديمها. وبعبارة أخرى، فإن المصارف الخاضعة للفحص تقدم قروضا أكثر، وقروضا أكثر مجازفة، وتصبح هذه النتائج أكثر وضوحا في المناطق التي يغطيها القانون.
وفي أوج حالة أسعار الإقراض، تجد الدراسة أن المصارف قدمت قروضا أكبر في استجابة للفحص، وأن النتائج كانت أكثر سوءا. ويخمن القائمون على الدراسة أن سهولة تحويل القروض إلى أوراق مالية ربما جعلت القروض الخطيرة الملتزمة بقانون إعادة الاستثمار المجتمعي تبدو أقل تكلفة. وأخيرا -ومثل الدراسات الجيدة- تشرح هذه الدراسة لماذا يفضي التحليل الأكثر دقة من جانب القائمين عليها إلى نتائج مختلفة عن تلك التي توصلت إليها دراسات سابقة.
وبسبب الطريقة التي بنيت عليها الدراسة فإنها تشير فقط إلى حد أدنى من التأثير في مدى الامتثال لقانون إعادة الاستثمار المجتمعي، فهي تركز على التأثير المتباين الذي يخلفه القانون على المصارف الخاضعة للفحص والمصارف غير الخاضعة له. والواقع أن من المرجح أن تكون كل المصارف قد زادت من مستويات إقراضها بما يتفق مع القانون، ولكن الدراسة لا تستطيع أن تقيس هذه الزيادة.
وعلى نطاق أوسع، تشير الدراسة إلى أننا لابد أن نتجاوز إلقاء اللوم على المصرفيين. يتعين علينا أن ندرك أن الضوابط والتوازنات الأساسية انهارت بسبب رغبتنا في توسيع ملكية المساكن. وكانت الأسر والساسة والجهات التنظيمية أيضا شريكة في الجريمة. وبينما نمضي في عملية الإصلاح، يتعين علينا أن نضع في الحسبان أن الشيء الوحيد الأسوأ من خوض الحرب الأخيرة هو خوض الحرب الأخيرة الخطأ.
خاص بـ"الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت