الرأسمالية والأسواق الحرة «2 من 2»

وفي الرأسمالية الموجهة من الدولة، تقرر الحكومة أي القطاعات ستحقق نموا. ويتمثل الحافز في البداية في الرغبة في تشجيع النمو، ولهذا النوع من الرأسمالية عدة مساوئ هي: فرط الاستثمار، وسوء اختيار الفائزين، وقابلية انتشار الفساد، وصعوبة سحب التأييد عندما يصبح غير ملائم. أما رأسمالية حكم القلة فهي موجهة نحو حماية وإثراء شريحة صغيرة جدا من السكان، والنمو الاقتصادي ليس من أهدافها الرئيسية، كما أن البلدان التي تعتمد هذا النوع من الرأسمالية تعاني انتشار الفساد وعدم المساواة.
وتستفيد رأسمالية الشركات الكبيرة من وفورات الحجم. وهذا النوع من الرأسمالية ضروري للإنتاج بالجملة. أما رأسمالية العمل الريادي فتقدم منتجات الإنجازات كالسيارات والهواتف وأجهزة الكمبيوتر. وتكون هذه الابتكارات عادة من إنتاج الأفراد والشركات الجديدة. غير أن الشركات الكبيرة ضرورية للإنتاج بالجملة ولتسويق هذه المنتجات الجديدة، لذا يبدو أن مزيج رأسمالية الشركات الكبيرة والعمل الريادي هو الأفضل. وهذا هو نوع الرأسمالية الذي تتسم به الولايات المتحدة أكثر من غيرها من البلدان.
عانت الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة انتشار البطالة على نطاق واسع أثناء فترة "الكساد الكبير" في الثلاثينات من القرن الماضي. وذهب الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز في كتابه المنشور في عام 1936 بعنوان General Theory of Employment, Interest, and Money إلى أن الرأسمالية تناضل للتعافي من فترات تباطؤ الاستثمار، نظرا لأن الاقتصاد الرأسمالي قادر على البقاء في حالة توازن إلى الأبد، في ظل ارتفاع معدلات البطالة وانعدام النمو. وشكك الاقتصاد الكينزي في الرأي القائل إن اقتصادات عدم التدخل الرأسمالية يمكنها المحافظة على مستويات أداء جيدة بمفردها دون تدخل الدولة لتنشيط الطلب الكلي ومكافحة ارتفاع البطالة والانكماش من ذلك النوع الذي عاناه العالم في ثلاثينيات القرن الماضي. وأكد كينز رأيه بضرورة التدخل الحكومي "عن طريق تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي" لانتشال الاقتصاد من فترة الركود (راجع مقال "ما هو الاقتصاد الكينزي") في عدد سبتمبر 2014 من مجلة التمويل والتنمية. وكان الهدف من هذه الإجراءات هو التخفيف من حدة فترات الانتعاش والكساد في الدورة الاقتصادية ومساعدة النظام الرأسمالي على النهوض من كبوته في أعقاب "الكساد الكبير". ولم يكن هدف "كينز" أبدا إحلال نظام اقتصادي مختلف محل الاقتصاد القائم على السوق؛ إنما كان يؤكد فقط ضرورة التدخل الحكومي الدوري.
ويمكن للقوى المؤدية عموما إلى نجاح الرأسمالية أن تؤدي أيضا إلى فشلها. فالأسواق الحرة لا يمكنها أن تزدهر إلا إذا وضعت الحكومات القواعد التي تنظمها - كالقوانين التي تؤمن حقوق الملكية - وعززت الأسواق بالبنية التحتية السليمة، كالشوارع والطرق السريعة لنقل السلع والأفراد. غير أن الحكومات قد تتأثر بجماعات المصالح الخاصة المنظمة التي تسعى إلى الاستفادة من قوة القواعد التنظيمية لحماية مراكزها الاقتصادية على حساب المصلحة العامة - على سبيل المثال، بكبح نفس السوق الحرة التي كانت السبب في نجاحها.
وبالتالي، وفقا لما ورد في دراسة (Rajan and Zingales (2003، لا بد أن يعمل المجتمع على "إنقاذ الرأسمالية من الرأسماليين" - أي باتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية السوق الحرة من سطوة جماعات المصالح الخاصة التي تسعى إلى عرقلة كفاءة أداء السوق. فلا بد من الحد من تركز ملكية الأصول المنتِجة لضمان التنافس. ونظرا لأن التنافس يوجِد أطرافا فائزة وأخرى خاسرة، فلا بد من تعويض الأطراف الخاسرة. ومن شأن التجارة الحرة والضغوط التنافسية القوية على الشركات المتنافسة أن تكبح مجموعات المصالح ذات النفوذ. فلا بد لعامة الناس من التعرف على محاسن السوق الحرة ومقاومة التدخل الحكومي في السوق لحماية أصحاب النفوذ على حساب الرخاء الاقتصادي الكلي.
ومن المحتمل أن يكون النمو الاقتصادي في ظل النظام الرأسمالي قد فاق كثيرا النمو الذي يتحقق في ظل النظم الاقتصادية الأخرى، لكن لا يزال عدم المساواة واحدا من أكثر سماته المثيرة للجدل. وهنا نتساءل: هل تؤدي حتما ديناميكية تراكم رؤوس الأموال في القطاع الخاص إلى تركز الثروة لدى فئة محدودة، أم هل يؤدي توازن قوى النمو والمنافسة والتقدم التكنولوجي إلى تقليل عدم المساواة؟ وقد عكف مختصو الاقتصاد على اتباع مناهج متنوعة لاكتشاف القوى المحركة لعدم المساواة الاقتصادية. وتتناول واحدة من أحدث الدراسات تحليل مجموعة فريدة من البيانات يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر بغية اكتشاف أهم الأنماط الاقتصادية والاجتماعية (دراسة Piketty, 2014). وتخلص هذه الدراسة إلى أن معدل العائد على الاستثمار في اقتصادات السوق المعاصرة كثيرا ما يتجاوز معدلات النمو الكلي. ومع تحقيق العائد المركَّب، في حال استمرار هذا التفاوت، ستزداد الثروة في حيازة أصحاب الأصول بوتيرة أسرع من غيرها من أنواع العائدات "كالأجور مثلا"، فتتفوق عليها في نهاية المطاف بفارق كبير. ورغم أن هذه الدراسة لها كثير من النقاد بقدر ما لها من مؤيدين، فقد زادت من الجدل الدائر حول توزيع الثروة في النظام الرأسمالي وعززت الاعتقاد السائد بين كثيرين بضرورة توجيه الاقتصاد الرأسمالي نحو المسار الصحيح من خلال السياسات الحكومية وجهود الجمهور العام لضمان استمرار عمل اليد الخفية التي تحدث عنها "سميث" من أجل تحقيق صالح المجتمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي