Author

الحياة الأخرى في إيران

|
مستشار اقتصادي

من فترة إلى أخرى نحتاج إلى مراجعة الأوضاع الإقليمية خاصة الأوضاع الاقتصادية للدول المهمة والمجاورة. تتركز الأنظار بموضوعية حول سياسة إيران الخارجية خاصة محاولتها بسط نفوذها على بعض الدول العربية وأفغانستان، حيث تتحرك بعقل قومي وتظهر بقلب أيديولوجي لأعوانها. ما يفرق بين الدول في الآخر هو مدى الكفاءة الاقتصادية إذ من دونها تتآكل الشرعية وتضعف قدرة الدفاع عن البلاد، مهما كان الدافع الأيديولوجي ففي المدى البعيد يرغب الناس في الأمن والأمان والحياة الكريمة. بعيدا عن العناوين الكبيرة يعيش أغلب الإيرانيين حياة مادية صعبة لأسباب كثيرة منها تبعات الثورة في عدم الاستقرار والبناء، والحرب، والرغبة التوسعية، وسوء الإدارة، والفساد، والجفاف، والحصار الاقتصادي. لن نحلل هذه العوامل في هذا العمود ولكن نقدم مجرد عرض للنتائج على الحياة العامة.
أول مظاهر التحدي الاقتصادي سكانية الطابع، حيث تتمثل في هجرة الناس من الريف إلى حزام البؤس في المدن الكبيرة. ليست إيران الوحيدة في هذا الشأن إذ هذا ما حدث في سورية ومصر والمغرب وباكستان. طبقا لإحصائيات البرلمان الإيراني زاد سكان حزام البؤس 17 ضعفا ليصل إلى نحو عشرة ملايين منذ 1979، بينما زاد السكان بنسبة 150 في المائة، طبقا لإحصائية 2015 فإن 40 في المائة من الإيرانيين تحت خط الفقر (يحدد البنك الدولي خط الفقر بدخل دولارين لكل فرد يوميا) -أي ما يعادل 1125 ريالا سعوديا لأسرة مكونة من خمسة أفراد. ارتفعت البطالة 2016 بنسبة 30 في المائة للفئة العمرية 20 إلى 24، فنحو 90 في المائة ممن قبض عليهم في الاحتجاجات الأخيرة أعمارهم أقل من 25 عاما. نحو 11 مليون إيراني أي ما يعادل نصف العاملين في وظائف غير منتظمة طبقا لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، كما تذكر أن ما بين عشرة و13 مليون إيراني ليس لديهم أي تأمين صحي أو تعويض عن البطالة. العوز جر كثيرين إلى الديون ما جعل المصارف هدفا للمحتجين خاصة في المدن الصغيرة والمتوسطة. هذه الإحصائيات تشير إلى أن الوضع الاقتصادي لن يحل في سنوات قليلة خاصة في ظل استقطاب سياسي بين النخبة ونهاية الحقبة الأيديولوجية مع نهاية حكم الخمناء المريض. أخيرا كان هناك نفس قومي بين الأقليات في الاحتجاجات الأخيرة.
يذكر علماء الاجتماع أن الطبقية والشعور بعدم العدالة أهم أحيانا من الفقر خاصة في الحقبة الاستهلاكية ولعلها أقوى في الثقافة الفارسية. فالعامل الإيراني المهمش يذهب للعمل بأجر زهيد غير مستقر إلى شمال طهران ويرى أبناء النخبة بسياراتهم الفارهة ومطاعمهم الراقية في طريقه إلى حزام البؤس في جنوب طهران.
المظاهرات الأخيرة أخذت طابعا اقتصاديا ولكنها لم تخل من الغضب تجاه النخبة الحاكمة بجناحيها المحافظ والليبرالي. هذه مجرد النسخة الأخيرة من مسلسل تاريخ إيران الحديث الذي بدأ بالثورة الدستورية عام 1906 ثم اكتشاف النفط المبكر 1908 "أحد أسباب قدم الآبار وصعوبة زيادة الإنتاج" إلى محاولة تأميم النفط في الخمسينيات ثم ثورة 1979 إلى الاحتجاج على تزوير انتخابات 2009 إلى الحالة اليوم. فمنذ أكثر من قرن لم تستطع النخب الحاكمة إيجاد المعادلة المناسبة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا للنهوض بإيران على الرغم من المقدرات المادية والبشرية والإرث التاريخي والثقافي، بل لعل من قائل إن هذا العبء النفسي جعل الهوية الإيرانية في تجاذب لا يمكنها من تجانس داخلي (الاقتصادية: إيران ومصيدة الهوية) http://www.aleqt.com/2011/12/20/article_608742.html#comment_752279. النظام الإيراني متمرس سياسيا وأمنيا ولذلك لن تطيح به الأزمة الأخيرة ولكنها تأتي على حساب إنهاك إيران تدريجيا وتزايد الفجوة بين الحاكم والمحكوم.

إنشرها