إنها الفرصة المناسبة لإصلاح الاقتصادات
تعاني غالبية الدول حاليا تأخر الإصلاحات التي التزمت حكوماتها بها، بما فيها حكومات بعض البلدان المتقدمة. هناك أسباب عديدة لهذا التأخر، على رأسها الاعتبارات السياسية التي تؤثر في الأحزاب الحاكمة. هذه الأحزاب تتجنب أن تظهر على الساحة المحلية على أنها أحزاب إصلاحية، ما يعني مباشرة أن العمليات الإصلاحية المشار إليها ستنعكس سلبا على الوضع المعيشي لشعوبها. في الواقع، تحاول بعض الأحزاب الحاكمة أن تظهر كجهات تضع الإنفاق في المقدمة، في فترة وجودها في الحكم. إنها عملية معروفة ومتكررة في هذا البلد أو ذاك. كثير من الحكومات استندت إلى حقائق الأزمة الاقتصادية العالمية وتبعاتها في حججها لتجنب الإصلاحات، خصوصا مع النتائج المرعبة لهذه الأزمة على الاقتصاد العالمي ككل.
اليوم تغير الوضع. الاقتصاد العالمي يتعافى بالفعل من خلال ارتفاعات ملحوظة للنمو، بل بعد تمكن الدول التي ضربتها الأزمة العالمية بعنف من الخروج من نفق الديون التي أصابت مؤسساتها المالية الكبرى، بصرف النظر عن طريقة الخروج هذه. بعضها (كما هو معروف) استند إلى تحمل الأمة كلها نفقات الخروج المذكور! في العام الفائت وصل النمو العالمي إلى 3.6 في المائة، وهي نسبة عالية، بعد أن شككت جهات عالمية كبرى في إمكانية أن يبلغ النمو هذا المستوى. واللافت أن الاقتصادات المتقدمة حققت معدلات نمو جيدة بالاعتماد على إمكاناتها ووسائلها الذاتية، أي أنها لم تنم جراء الطلب في الأسواق الناشئة. وهذه نقطة عالية الجودة في الأداء الاقتصادي بشكل عام.
صندوق النقد الدولي جدد مطالبه بضرورة الاستفادة من تعافي الاقتصاد العالمي، لإجراء الإصلاحات المطلوبة. الإصلاحات التي تأخرت سنوات، ما جعل الاقتصادات في دائرة الشك. وكأن "الصندوق" يريد أن يقول للحكومات، لا توجد حجج منطقية لتأخير العمليات الإصلاحية، بعد هذا النمو الجيد. والنمو المشار إليه، هو الأفضل بالفعل حتى قبل الأزمة الاقتصادية العالمية بسنوات، ما يدعم بصورة كبيرة مطالبات "صندوق النقد" بضرورة الانكباب على الإصلاح الآن وليس غدا، علما بأن التوقعات تشير إلى استمرار النمو في العام الجاري، ما يؤمن أي حراك إصلاحي في هذا البلد أو ذاك. لا يمكن اللعب بالسياسة في مسألة الإصلاحات الاقتصادية، لأن النتيجة ستكون كارثية وتستهلك الإنتاج لسنوات طويلة.
الوضع الاقتصادي العالمي بات ملائما للإصلاح. هذه هي الحقيقة التي تسعى المؤسسات الاقتصادية العالمية إلى تكريسها. بل أصبح من مصلحة الحكومات القيام بها الآن وليس غدا، لأنها بذلك ستدخل تاريخ بلدانها على أنها أنهت في عهدها كل آثار الأزمة الاقتصادية العالمية. المثير في الأمر حقا، أن دولا عانت نموا ضعيفا جدا كفرنسا، بدأت تحقق قفزات نوعية على ساحتها الاقتصادية. وفي منطقة اليورو هناك أيضا تقدم ملحوظ على صعيد النمو، بصرف النظر عما إذا وصل إلى الحد المستهدف أم لا. وحتى العملة الأوروبية باتت بعيدة شيئا فشيئا عن الأزمات، خصوصا بعدما شكك البعض في استمراريتها. ولا يبدو أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيمثل هزة كبيرة، ولا سيما في ظل الاتفاقات المرحلية التي تجري بهذا الخصوص.
لا يمكن تفويت فرصة الإصلاح الآن، ويكفي العالم ما عانى على مدى عشر سنوات تقريبا، أزمات بل ومصائب انطلقت في الواقع من الساحات الغربية. إنها الفرصة المناسبة التي يمكن استغلالها حتى النهاية من أجل إصلاح تكون آثاره أكثر شمولا واستدامة.