كرامة عجوز
من الأمور التي قد توجع قلب الكاتب أن يضطر لإعادة صياغة موقف إنساني كان شاهدا على تفاصيله، ليتمكن من تنسيقه وتصوير أحداثه كمقال في عموده الأسبوعي أو اليومي، كأنما هو مخرج يريد أن يصل المشهد بكل زواياه للمشاهد ويترك أثرا في روحه.
أثناء تسوقي في إحدى الأسواق ارتفع صوت أذان المغرب فأغلقت المحال أبوابها، فجلست في مكان متميز يتيح لي أن أطلع على أكثر من زاويتين. اقتربت مني عجوز جسدها النحيل من خلف العباءة وتجاعيد عينيها من تحت النقاب وشرايين يديها النافرة وحركتها البطيئة تشير إلى أنها قد تجاوزت الـ 70. كانت تعرض بضاعتها البسيطة التي كانت عبارة عن “بيزة”، ومن باب الإنسانية اشتريت منها، وحين أردت أن أعطيها مبلغا أكبر رفضت بإصرار وهي تقول “ما آخذ إلا من عرق جبيني يا بنيتي”، ابتعدت قليلا وبدأت في عرض بضاعتها. متسوقة أخذت “البيزة” وقامت بتفحصها بعناية شديدة ولفترة طويلة والعجوز واقفة تنتظر، وفي النهاية هزت رأسها رافضة الشراء. أشارت شابة كانت تتحدث بالهاتف للعجوز وأخذت “البيزة” وظلت تومئ بها بعصبية وكأنها تنفس عن توترها والعجوز واقفة تنتظر، وبعد إنهاء المكالمة أعادتها دون أي كلمة وسارت بعيدا غير عابئة بتصرفها اللاإنساني، وشلة أخرى من النساء أخذت “البيزة” وكل واحدة تسلمها للأخرى وتبدي رأيها في الخياطة والألوان والسعر وفي النهاية أرجعنها دون شراء وحين ابتعدت العجوز نادتها إحداهن لتتصدق عليها ببضعة ريالات فرفضتها بكل عزة نفس وسط دهشتهن، ورابعة مدت لها بضع قطع من البسكويت المتبقي من أطفالها وكأنها تشعر بأنها متفضلة عليها بهذا العطاء. كان الأمر بالنسبة لي أشبه بمشهد درامي لم أكن مستمتعة بتفاصيله إطلاقا!
رغبت بشدة أن أتحدث مع تلك العجوز التي أثارت مكامن الفضول بداخلي لرفضها المال من المتسوقين، حين طلبت منها الجلوس وعرفتها على نفسي وسألتها عن ذلك أجابتني (شوفي يا بنتي كرامة الإنسان مالها دخل إن كان فقيرا أو غنيا، علمتني الدنيا أن الكرامة إذا راحت ما ترجعها أموال العالم كلها، الكرامة مثل المراية إذا انخدشت ما راح ترجع مثل أول، عشان كذا أنا ما آخذ إلا من عرق جبيني ويكفيني لو بعت في اليوم بمية ريال، من يهين نفسه للناس هان في نظرهم. يا بنتي الحياة دون كرامة ما لها أي قيمة) وتركتني واختفت وسط زحام المتسوقين وأنا أفكر بقانونها في الحياة .. يا لحكمتها!
وخزة
يقول ماريو فارجاس (إن الإنسان لا يرث الكرامة ولا المهانة، بل يصنعها بنفسه)