العالم يعيد تشكيل النظام الدولي
حينما تعرض العالم العربي لما كان يعرف بثورات الربيع العربي، بدءا من الثورة الشعبية في تونس عام 2011، كان العرب يظنون أنهم إزاء تشكيل جديد للعالم العربي، وكان قد سبق هذه الثورات طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي عرّفته كوندا ليسا رايس وزيرة خارجية أمريكا بـ"الفوضى الخلاقة"، ولكن بعد وصول الرئيس دونالد ترمب إلى السلطة في الولايات المتحدة أصبح واضحا للعيان أن العالم كله ــ وليس العالم العربي فقط ــ يعيد تشكيل نظامه بزعامة الولايات المتحدة.
قد يكون المشهد مرعبا والولايات المتحدة تحرك أساطيلها وسفنها نحو بيونج يانج، وكذلك روسيا التي بدأت في تحريك سفنها الحربية في اتجاه شبه الجزيرة الكورية للوقوف مع حليفتها كوريا الشمالية، ولكن واضح أن التحرك العسكري الأمريكي يحمل معه عودة أمريكا إلى زعامة العالم، وقيامها بإعادة تشكيل نظام دولي جديد، وفي تصريح أطلقه لافروف عقب مؤتمر ميونيخ الذي عقد في شباط (فبراير) الماضي نفى فيه نوايا روسيا نسف النظام الليبرالي العالمي، كما نسف الغرب دولة الاتحاد السوفياتي!
كان حلم النظام الدولي الليبرالي الغربي بعد الحرب العالمية الثانية إحلال عالم جديد بنظام اقتصادي حر وعلمنة المجتمعات، غير أن المحصلة اليوم ــ بعد ستة عقود ــ أن معدلات البطالة في كل دول العالم ارتفعت، وأن تجارة المخدرات ازدهرت على مستوى العالم، وأن جماعات الإرهاب نشطت واتسعت رقعتها في مناطق مختلفة من العالم.
وإذا عدنا هنيهة إلى الوراء فسنلاحظ أن الأوروبيين حينما طُرِح عليهم مشروع الاتحاد الأوروبي في بداية الستينيات الميلادية، كانت الشعوب الأوروبية منحازة إلى نموذج الوحدة الشاملة؛ لأن أوروبا القارة العجوز تورطت في حربين عالميتين طاحنتين خلال ربع قرن فقط.
ولكن الجغرافيا والتاريخ ــ بعد سبعة عقود ــ لم يقبلا فكرة الوحدة الشاملة؛ لأن أوروبا مجموعة من الأعراق والثقافات واللغات والملل والنحل، وأمام هذا الكوم الهائل من العوائق الجيوسياسية تراجعت المطالب الوحدوية، واكتفت الشعوب الأوروبية بأن يقوم اتحاد يراعي المصالح الاقتصادية لكل الدول الأوروبية الأعضاء.
ورغم ما كان يبدو أن المسيرة الاقتصادية الأوروبية تسير في الاتجاه الصحيح، انفجرت عام 2008 الأزمة الاقتصادية في اليونان، وكادت الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي أن تعلن إفلاسها، ولكن الاتحاد الأوروبي ــ من منطلق مسؤولياته تجاه الدول الأعضاء ــ منح الخزانة اليونانية جرعات من المساعدات العاجلة لإنقاذ اقتصادها المتداعي، وقبل أن يتشافى الاقتصاد اليوناني اندلعت أزمة اقتصادية في البرتغال، وأعقبتها أزمات مماثلة في إسبانيا وإيطاليا.
وأمام سلسلة الأزمات الاقتصادية التي أخذت تضرب اقتصادات هذه الدول، فإن الليبرالية الغربية بدأ جسمها السياسي والثقافي يتعرض لمزيد من أمراض الشيخوخة، وما زال الاقتصاد الأوروبي يرسل المؤشرات المنذرة للأزمات القادمة، بل إن بعض المفكرين السياسيين والاقتصاديين يتوقعون سقوط التجربة الأوروبية كما سقطت التجربة السوفياتية. وكذلك من الأشياء التي تفت في عضد الاتحاد الأوروبي هو الاستفادة العرجاء من قيام الاتحاد الأوروبي؛ أي أن ألمانيا هي المستفيد الأكبر من قيام الاتحاد، وليس صحيحا أن قيام الاتحاد هو في صالح كل دول الاتحاد، ولذلك تفوقت ألمانيا كقوة اقتصادية كبرى داخل منطقة اليورو بخاصة، وداخل الاتحاد الأوروبي بعامة، بينما كثير من دول الاتحاد عبرت عن استيائها من تفوق ألمانيا، ومنها إسبانيا والبرتغال وإيرلندا واليونان.. حتى فرنسا التي تعرضت لأزمة اقتصادية عام 2014 لحقت باليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، وانتقدت استفادة ألمانيا الكبرى من الاتحاد، وأخيرا أسفرت الانتخابات الفرنسية التي جرت في الأيام القليلة الماضية عن تغيير معياري في اتجاهات الرأي العام الفرنسي، ما يعني أن الشعب الفرنسي بدأ يستعد لنظام دولي جديد.
إن قضية تفكك الاتحاد الأوروبي باتت مطروحة عند المفكرين الألمان؛ لأن ألمانيا هي الدولة التي تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية دعم دول الاتحاد، وتدفع من خزانتها أموالا هائلة لمعالجة كل الأزمات الاقتصادية التي تعانيها دول الاتحاد الأوروبي.
ولذلك هناك شريحة من المفكرين الاقتصاديين الألمان ينادون بفكرة تفكيك الاتحاد الأوروبي؛ حتى لا تصبح ألمانيا وحدها هي المسؤولة عن إنقاذ اقتصادات الدول التي تترنح اقتصاديا.
أما بالنسبة إلى بريطانيا فإن مؤيدي الانسحاب يقولون إن خسائر الانسحاب الآن أفضل بكثير من خسائر الانسحاب إذا ظلت بريطانيا في الاتحاد حتى تفكيكه المحتمل.
وإزاء منطقة الشرق الأوسط، فإن مشاريع إعادة تشكيله بدأت ــ كما أشرنا ــ بمشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أطلقته إسرائيل عام 1990، ثم تبنت الولايات المتحدة هذا الملف، وناشدت دول الشرق الأوسط بضرورة بلع طعم الشرق الأوسط الجديد، وضرورة هضم التغيرات التي يريدها الغرب بحجة الحفاظ على أمن واستقرار الشرق الأوسط، ولكن في الحقيقة الهدف من مشروع الشرق الأوسط الجديد هو ترسيخ أقدام إسرائيل، وتثبيت احتلالها للأراضي الفلسطينية وفي مقدمتها القدس.
وحينما وصل الرئيس دونالد ترمب إلى السلطة، وعد بالتغيير وإعادة تشكيل العالم بنكهة أمريكية مهددا باستخدام القوة، وطالب أوروبا صراحة بإعادة تجديد نفسها؛ لأنها كبرت وشاخت والعالم يتغير بسرعة عجيبة!
وفعلا استخدم ترمب القوة، حينما أطلق 59 صاروخا على قاعدة الشعيرات السورية متحديا الدفاعات الروسية، ثم أطلق عديدا من الإنذارات لكوريا الشمالية، ثم اتجه إلى إيران ووصم حكومة الملالي بأنها أكبر داعم للإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، وأنها تشكل تهديدا للاستقرار العالمي.
ويبدو أن هذه الاتهامات الأمريكية المباشرة تجاه الحكومة الإيرانية هي الإخطار الأول لحكومة الملالي، وستعقبها ضربة مباشرة للقواعد العسكرية داخل المحيط الإيراني.
وواضح أن الرئيس الأمريكي ترمب لن ينتظر الأحداث تأتي بالتشكيل الجديد للعالم، بل سيباشر هو بفرض التغيير وإعادة تشكيل النظام العالمي، حيث بدأ بالفعل الاتجاه نحو بيونج يانج التي تهدد السلم والأمن الدوليين، وما زلنا نرقب بقلق شديد سلسلة الإجراءات التي سيتخذها ترمب إزاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون، وهي إجراءات لا شك أنها محفوفة بالمخاطر، ولذلك فإن العالم يحبس أنفاسه انتظارا لما ستتمخض عنه الوساطة الصينية، التي وعدت بتليين موقف حليفها الكوري الشمالي!