كيف تفوق الكذب على الصدق؟
لم يعد الصدق من الأهمية بمكان. كثير منا يعتقد أن الصدق والنزاهة والأمانة يجب أن تكون معيار حياتنا وسلوكنا وبالأحرى لدى الذين يقودوننا.
بيد أن ما نشاهده اليوم يعاكس توقعاتنا لأننا نحظى بقليل من الصدق وكثير من الكذب.
والناس لا تقبل أن تلصق بها تهمة الكذب. إن قلنا "هذا الشخص كذّاب" فإن ذلك يعد انتقاصا من مقامه وتهمة لا يقبلها تحت أي ظروف.
الأخلاق الإنسانية والأديان ومنها التي يراها أصحابها أنها من السماء ترفض الكذب وتستهجنه لا بل تدين الشخص الذي يكذب.
"لا تكذب" تكاد تكون لازمة تتكرر كثيرا في التشريعات وترد كنص أو وصية تحث الناس على عدم الكذب وقول الصدق حتى إن كان ذلك يؤدي إلى تبعات سلبية على قائله.
ولكن أصحاب المصالح ومنهم السياسيون لا يفكرون هكذا. إن تطلب تحقيق المصلحة اللجوء إلى الكذب، فأصحاب الشأن ومعهم كثير من عامة الناس يستخدمون أي وسيلة لتحقيق غايتهم ومنها الكذب.
ولم يصبح الكذب جزءا من "الأخلاق العامة" لدى أصحاب المصالح إلى درجة أنهم قد يتباهون به إلا في مستهل القرن الـ 16 عند صدور كتاب الأمير لمؤلفه الشهير نيكولو ميكافيلي.
ورغم أننا قلما نرى سياسيا أو صاحب شأن لا يعبر عن استهجانه بما أتى به ميكافيلي من فكر في كتابه، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك.
أفكار ميكافيلي (والميكافيلية نظرية فكرية وفلسفية في السياسة والإدارة والاقتصاد وغيره) دشنت عهدا جديدا في أوروبا. وإن أردنا اختصار فلسفته لا بل فقهه، أظن بإمكاننا القول إن ميكافيلي ألغي أي دور للأخلاق الإنسانية والتعاليم الدينية في السياسة.
كان السياسيون وأصحاب الشأن في زمانه من رجال الدين في أوروبا يتكئون كثيرا على الأخلاق والنصوص التي يرونها مقدسة ويدعون أن سياساتهم وأعمالهم وممارساتهم ما هي إلا انعكاس لها. ميكافيلي قال: كلا. أي صاحب مصلحة لا يكترث ويجب ألا يكترث للوسيلة التي توصله إلى غاياته، أي وسيلة حتى ولو كانت اللجوء إلى الكذب أو الشر.
وقال إن أصحاب الشأن، أيا كانوا، لهم غايات ومصالح وكي يحققوا مبتغاهم فإنهم يستخدمون وسائل تعارض المتعارف عليه من الأخلاق.
ليس هذا فقط، فبدلا من أن يدينهم ميكافيلي لاستخدام الكذب أو العنف أو حتى الشر لتحقيق غاياتهم، برر لهم الوسيلة، بمعنى أن أي وسيلة بريئة ومسموح بها ومن حق أصحاب الشأن اللجوء إليها لتحقيق المصالح.
ربما لم يؤثر مفكر في الفكر الغربي وممارساته مثل ميكافيلي، وكتابه "الأمير" لا يزال واحدا من أشهر الكتب الفكرية رواجا وتأثيرا في عالم السياسة والمصالح. واليوم يبرر أصحاب الشأن الوسائل التي يستخدمونها لتحقيق غاياتهم ومصالحهم. وهذا التبرير له مدى تاريخي، أي حتى الوسائل المرعبة - والكذب أمر مرعب - التي راح ضحيتها أبرياء وأبادت شعوبا، يمنحها القائمون بها تبريرات مثل "ضمن إطار ذلك الزمان" أو "هذا كان أمرا دارجا في ذلك الزمان".
وتبرير الوسيلة لتحقيق المصلحة صار أمرا مألوفا. قالوا لسياسي: "لماذا تكذب؟" قال: "أنا أقتل وأغزو وأشن الحروب من أجل قضيتي "مصلحتي"، فلماذا لا أكذب".
أنا شخصيا أستغرب عندما أقرأ مقالا في صحيفة، أي صحيفة، يهاجم فيه كاتبه سياسيا أو حكومة لأنها حسب رأيه تلجأ إلى الكذب في تمرير سياساتها.
بعد مرور 500 عام على صدور الكتاب الذي من خلاله أسس ميكافيلي لواحد من أكثر المنطلقات النظرية والفكرية والفقهية تأثيرا في دهاليز السياسة وإدارة المؤسسات، لم يعد أمامنا إلا أن نقدم جردا بالأكاذيب التي يقترفها السياسيون وليس مناقشة إن كانوا يكذبون أم لا للوصول إلى أهدافهم. وعلينا ألا نلوم السياسيين لأنهم يكذبون علينا. بعض اللوم يقع علينا أيضا ولا سيما في البلدان التي فيها هامش حرية وانتخابات. لماذا؟ لأننا ومن خلال صناديق الاقتراع نبرهن أن الأمانة والنزاهة والصدق ليست المعيار لأننا قد ننتخب سياسيا استند إلى الكذب لكسب أصوات الناس.
كل الأحزاب السياسية وأصحابها يكذبون، بيد أن الكذبة الكبيرة التي يروجها اليمين المتطرف في الغرب مثلا حول الأجانب والمهاجرين كونهم خطرا وجوديا ربما لا مثيل لها في التاريخ. وهذا مثال واحد على تفشي الكذب في السياسة.
السياسيون يكذبون والكذب جزء من المهنة. لم يعد أمرا مجديا محاسبتهم على الكذب. علينا في هذا العصر الذي تغلب فيه الكذب على الصدق أن نتوقف عن منح الثقة بسهولة للذين يقودوننا والذين يحاولون إقناعنا والتأثير فينا من خلال خطابهم.