Author

حتى لا ينقطع بنا الطريق

|

لطالما كان الدين مفصلا أساسا في مراحل تحول الأمم وتاريخها. لا تختلف في ذلك مراحل حضارات الأمم بمختلف أديانها. ولنا في أوروبا مثال مهم. وقد بقي الدين جزءا من الروح الحيوية للسياسة في العالم كله، لكنه لم يبق أبدا عائقا ولا منافسا لها. ونحن أمام مرحلة من مفترق طرق حتى لا ينقطع بنا الطريق. وحساسية هذه المرحلة ليست فقط في جانبها الفكري وحيدا الذي رافق مراحل سالفة، بل في مواجهة مرحلة جديدة كليا. وهي مرحلة جاءت من الماضي بحمولتها الثقيلة في حين عبر العالم المتقدم آلاف الخطوات. حتى باتت مسألة مراجعة الموروث الديني مسألة حيوية بحيوية المسألة الوجودية نفسها.
انتشر أخيرا مقطع فيديو لشابين سعوديين، قيل إنهما طالبان يرتديان زيا وطنيا ، يتحدث أحدهما أمام جهاز مايكروفون والمذيعة التابعة لقناة فرنسية تسأله عن رأيه في الجهاد. كان الشاب يحاول التعبير الذي اقتنصته القناة وظهر مترجما باللغة الفرنسية على المقطع، وفيه يقول الشاب بالعربية ردا على السؤال: "الجهاد هذا سنة مؤكدة".. وأشار إلى صاحبه متأكدا فهز الثاني رأسه، وأكمل "الحمد لله، الله حط أجر للي يجاهد في سبيل الله، يكفينا ما يحاسبه يوم القيامة ويزوج 70 من الحور العين، لا!.. ويشفع لـ 70 من أهله، والجهاد يعني أن الكل يتمناه، وكل شاب مسلم يتمنى الجهاد في سبيل الله…". انتهى. لا شك أن تعريف الشاب للجهاد يؤخذ ـــ بشكل عام ـــ على محمل الجد، لأنه لم يقل شيئا بخلاف التعريف الديني السائد للجهاد في الإسلام الذي تعلمناه جميعا على مقاعد الدرس. وهذا رأي مثير في ظل ما يحدث من إرهاب عالمي باسم الجهادالذي لايقره الشرع الحنيف بهذه الطريقة. لكن الجهاد جاء كجزئية دينية في زمن بظروف مختلفة تتعلق بمرحلة تأسيس دولة الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام. لذا فالجهاد في عصر الرسول كان يمثل الجهاز العسكري والحربي متكاملا. وتعريف الجهاد الآن ينبغي أن يشير إلى الجيش النظامي تحت راية الدولة، وبعد إذن ولي الأمر الحاكم، وليس مهمات فردية لحمل السلاح، وإلا أصبح الكون مهزلة والتعريف أيضا مقلقا. التعليم الديني في المناهج ينبغي عليه التمييز بأن الجهاد الحربي الدفاعي مهمة حصرية للجيش النظامي، وأن الجهاد المدني يكون في ساحات التنمية وليس جهاد المعارك الفردية.
لا شك أن الحضارة الإسلامية لم تقم إلا بفكر وخطاب متجددين. وقد سكن الاستقلال الفكري لدى الفقهاء في الإسلام بسبب التحولات السياسية في زمن تفكك الدول والخلفاء منذ ألف عام، حين ركن الفقهاء إلى التقليد وقفل باب الاجتهاد في التجديد الديني. وقد جعل الجمود الفقهي وغلبة النقل على العقل البعض يتبنى أحاديث موضوعة دعما لموقف قد يكون سياسيا. إن تجديد التعليم الديني وإصلاح خطابه الدعوي، هما ضرورتان للإصلاح وتجسير الفجوة مع العالم المتقدم ومواجهة التحديات، وتحمل المسؤوليات. والمراجعة الدينية ينبغي أن تحدد موقف الإسلام من الأمم والشعوب من غير أهل الأديان السماوية التوحيدية الأخرى، ولا سيما أن الحصانة هدف حيوي لسد أبواب التطرف الفكري. فن استخدام الخطاب عامل مهم في التطرف والتجنيد من قبل الإرهابيين الذين لا يعترفون بمفهوم الدولة ويهمشون القيمة السياسية لها ويعززون الكراهية تجاه أجهزتها الرسمية. واللغة المتطرفة تظهر ليس فقط في صراحة العبارة بل حتى فيما يتم تجميله منها.
ولا شك بالتالي أن التنمية في مجملها كعملية تحتاج إلى جسارة السياسي لاتخاذ كل الخطوات اللازمة للإصلاح الفكري، من بين ذلك بطبيعة الحال قرارات تحديث الدولة وتحديث أنظمتها.

إنشرها