معهد الإدارة العامة .. ناجح بدرجة مقبول

نسلم بأن تاريخ معهد الإدارة العامة، تاريخ عريق وعميق وحافل، وهو كمؤسسة تدريبية وتعليمية يعد - بكل المعايير - مفخرة من مفاخر الإصلاح الإداري في المملكة العربية السعودية، بل يعد معهد الإدارة العامة واحدا من أهم المعاهد التدريبية التي أنشئت في القرن العشرين في منطقة الشرق الأوسط.
ولكن إذا أردنا أن نحكم على المعهد من مخرجاته، فإننا سوف نقف مذهولين أمام أرقام كثيرة من الخريجين قبالة أرقام أكثر من المشاكل الإدارية المعرقلة لمسيرة التنمية الإدارية، بل نستطيع القول إن معهد الإدارة العامة مثقل بمظاهر متعددة من التخلف الإداري الذي تعانيه بعض المؤسسات الحكومية.
إن المستوى العالي الذي بلغه المعهد في المظاهر يقابله - مع الأسف - مستوى أعلى في الفساد الإداري الذي ما زال يعلو كلما ارتفع المعهد في الإمكانات والشكل الخارجي.
وها هي الوزارات والمؤسسات الحكومية تشكو من الترهل الإداري وتئن من الفساد الإداري، بدليل أن كثيرا من المؤسسات الحكومية تحمل التخلف الإداري مشاكل عدم تنفيذ مشاريعها وبرامجها، وربما تأتي مشاريع البلديات والتعليم والكهرباء والمياه والصحة والتجارة والإعلام والزراعة، بل حتى القضاء في مقدمة المؤسسات الحكومية التي تشكو من التخلف الإداري رغم مرور 60 عاما على إنشاء المعهد، وقيام المعهد خلال هذه الفترة المديدة بتخريج قوافل من حملة الشهادات في جميع أفرع الإدارة العامة.
إن المشاكل التي يعانيها المواطن من أداء هذه المؤسسات لا تعطي صورة زاهية عن أداء المعهد، ولا تعطي صورة زاهية عن أداء كل كليات الإدارة في الجامعات السعودية، حتى الكليات المستقلة التي تتخصص في العلوم الإدارية لم تستطع أن تحل طلاسم المشكلة الإدارية التي تعانيها البيروقراطيات السعودية، وهنا تتجسد أهمية دور الزعامة الكبيرة المتمثلة في معهد الإدارة العامة الذي كان المفروض أن يفك الطلاسم ويضع الحلول الحاسمة.
والمؤسف أن المسؤولين إذا أرادوا أن يتفاخروا بإنجازات المعهد يشيرون إلى قوافل الخريجين الذين تخرجوا من المعهد، علما بأن أرقام الخريجين لا تعبر عن نجاح المعهد، بل بالعكس ضخامة عدد الخريجين مع زيادة الترهل والفساد الإداري دليلان على إخفاق المعهد في تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها.
وهنا يثور سؤال: هل المعهد مسؤول عن محاربة الفساد الإداري في المؤسسات الحكومية، أم أنه مسؤول عن تأهيل وتدريب وتسليح الكوادر المنوط بها مسؤولية محاربة كل طواغيت الإدارة؟
أنا شخصيا أقول بملء فمي: نعم إن عدد الملتحقين بالمعهد مهم، ولكن الأهم هو مدى مساهمتهم في القضاء على التخلف الإداري، ولذلك أرى أن من أهم واجبات معهد الإدارة العامة القضاء على الفساد الإداري في الأجهزة الحكومية من خلال عدد من خريجي المعهد الذين تم تسليحهم بكل أشكال وألوان الأسلحة البتارة والفتاكة. وإذا قدر للمعهد بإمكاناته الهائلة أن تمتد أياديه البيضاء إلى القطاع الخاص ويستخدم مبضعه الحاد في قطع جذر الفساد في القطاع الخاص فأرجوه ألا يتأخر لحظة، فنحن والعالم كله نتوجع من أمراض الفساد التي نهبت الأموال والأنفس وأطاحت بصروح الحضارة الإنسانية!
دعونا نرجع إلى الوراء إلى نحو 60 عاما ونقف على ظروف تأسيس المعهد، وسنجد أن من أهم أسباب إنشاء المعهد: الإصلاح الإداري، وإعادة هندسة التنظيم الإداري في الحكومة، والقضاء على الفساد المستشري، وتصميم نظام إداري من أهم وظائفه أن يرتفع بكفاءة الموظفين حتى يستطيعوا أن ينفذوا برامج ومشاريع التنمية المستدامة بإنتاجية وكفاءة عاليتين.
في عام 1960 تعرضت حكومة المملكة العربية السعودية لأزمة إدارية ومالية ضربت جميع شرايين الاقتصاد الوطني وعطلت كثيرا من محركاته، وأمام الكم الهائل من المشاكل الإدارية والاقتصادية تقدمت الحكومة السعودية إلى البنك الدولي للإنشاء والتعمير، كما تقدمت إلى إدارة المساعدات الفنية في الأمم المتحدة، وطلبت منهما المساعدة على وضع روشتة للإصلاح الإداري، وكانت استجابة الأمم المتحدة أسرع من البنك الدولي، فبادرت بإرسال المختص محمد رمزي إلى الرياض، وبعد الفحص والتحليل أوصى المختص بمجموعة من الإصلاحات، وكان من أهمها في تقديري إنشاء معهد الإدارة العامة بهدف تدريب وتأهيل كوادر وطنية كفؤة تقوم بإنجاز البرامج والمشاريع بكفاءة عالية وفي قت قصير.
أقول إن معهد الإدارة العامة لا يزال مفخرة ليس للدارسين فحسب، بل مفخرة لأكاديميات الإدارة في المملكة العربية السعودية.
ولكن القضية التي نطرحها لا تدخل في سيناريوهات المجاملة، بل تهدف إلى معرفة مخرجات المعهد ومستوى هذه المخرجات ودورها الذي لعبته والذي يؤمل أن تلعبه في حياتنا الإدارية، فلا يكفي أن نخرج أعدادا من المتدربين، ولكن المهم أن يخرج المعهد جيوشا تستطيع أن تنتصر في حروبها التي لا تنتهي ضد أمراض البيروقراطية المعوقة للتنمية المستدامة.
وأرى أن بين أهم واجبات المعهد من الآن فصاعدا مناقشة أسباب عدم نجاح المعهد في القضاء على التخلف الإداري في كثير من أجهزة الحكومة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي