الإعلام الثرثار

الإنسان بطبعه يميل صوب الثرثرة. كثيرا ما نستمتع بالأخبار الكاذبة أو الأكاذيب البيضاء ولا سيما عندما تهب رياحها لمصلحتنا ومصلحة ميولنا.
والثرثرة كانت ولا تزال جزءا من التراث الإنساني، رغم أن أغلب الأمم تحاول مسح كل ما يشير إليها.
العرب مثلا لهم في تاريخهم شخصية شهيرة كان ديدنها الكذب. لا أظن أن هناك عربيا لا يعرف من هو "مسيلمة الكذاب".
وإن كانت الثرثرة والأكاذيب وتضخيم الأمور في كثير من الأحيان جزءا من التسلية واللهو أو حتى جنسا أدبيا قائما بذاته، إلا أنها اليوم صارت مادة تقريبا على كل لسان.
في الماضي كان عدد الذين يتداولون الأخبار الكاذبة محدودا وذلك بسبب محدودية وسائل النقل والاتصال. كان من الصعوبة بمكان، إن لم يكن الأمر مستحيلا، على شخص عادي نشر ثرثرته على نطاق واسع.
اليوم اختلف الأمر بعد أن منحت الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي الفرصة لأي كان أن يصبح صحافيا، بمعنى إمكانية نقل المعلومة وبطرائق شتى، مكتوبة، ومحكية، ومصورة بشكل ثابت أو متحرك وبسرعة البرق.
يبدو أن نقل المعلومة أو "الثرثرة الرقمية" بدأت تسحب البساط من تحت أقدام الصحافة أو الإعلام الرصين الذي همه الأول التحقق من صدق المعلومة ومن ثم نقلها ضمن قواعد وموازين النزاهة والموضوعية.
وللصحافة الرصينة قواعد صارمة للنشر. وكالة خبرية مثل "رويترز" مثلا لها مواثيق شرف ومبادئ أخلاق تلتزم بها بصرامة وتسندها عقوبات صارمة في حال انتهاكها.
إضافة إلى ذلك لها ـــ كما لمثيلاتها من الوكالات والصحف ذات الاعتبار والمقام ــــ دليل أسلوب يتخذه كتابها وصحافيوها بمثابة نبراس يسترشدون به حتى لمعرفة إن كان استخدام مفردة محددة قد تمثل تعبيرا مشحونا ومؤشرا إلى الميل أو التحزب أو التحيز أو المحاباة.
وهناك وحدة خاصة تراقب المحتوى على مدار الساعة للتأكد من أن اللغة المستخدمة لغة رصينة غايتها النزاهة والموضوعية ولا مكان فيها للميول والذاتية.
مرت الصحافة بمخاض كبير قبل أن تضع لنفسها دساتير تحاول جهدها عدم انتهاك فقراتها. وصارت مسائل الأخلاق والشرف والموضوعية والتوازن والمصداقية والإنصاف والأمانة جزءا من المهنة.
بطبيعة الحال، لم تخل الساحة الإعلامية من الثرثرة. الكتابة من أجل الإثارة والتهييج دخلت عالم الصحافة من أوسع الأبواب في نهاية القرن الـ 19. ومن روادها الأوائل أسماء شهيرة مثل جوزيف بوليتزر وويليم هرتس اللذين يرد ذكرهما كلما جرى التطرق إلى الصحافة الشعبية.
وكان لظهور هذا الجنس الصحافي وقع الصاعقة وأطلق عليه معارضوه "الصحافة الصفراء" لتميزه عن الكتابة الصحافية التي تتقيد بمعايير النزاهة والمصداقية وتتجنب الإثارة والثرثرة، وهو لا يزال يحتل اليوم مكانة بارزة في عالم الصحافة والإعلام.
قراء الصحف الشعبية "الصفراء" مثل "ذي صن" في بريطانيا مثلا أضعاف قراء صحيفة رصينة مثل "ذي جارديان".
بوليتزر وهرتس عندما أطلقا صحيفتهما "الصفراء" لم يقوما بأي عمل خارج نطاق الطبيعة البشرية. ما قاما به كان فقط جعل الثرثرة متاحة على نطاق واسع.
وأول فيلسوف يكتشف ميل الإنسان صوب الثرثرة والتحيز والإثارة والتهييج والكذب كان الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون قبل أن نغرق في الأمواج المتلاطمة التي تقذفنا من يم من الكذب إلى يم آخر؛ أي قبل أن تأخذ عقولنا وقلوبنا ثورة التواصل الرقمية إلى درجة يصبح فيها جهاز ذكي صغير وكأنه عضو من أعضاء جسدنا نحمله معنا في حلنا وترحالنا وفي نومنا ويقظتنا وإن فقدناه كأننا فقدنا أعيننا.
قبل نحو 400 عام وضع الفيلسوف هذا أسسا لنظرية تفسر ميل البشر صوب الإثارة والثرثرة وعدم المصداقية للدفاع عن ميولهم وتحيزهم وتحزبهم الفكري عند التعرض للتأثيرات الخارجية أو الدفاع عما يرونه أو ينظرون إليه وكأنه صواب وغيره ليس كذلك.
وأطلق بيكون على هذا النوع من الميل، وهذا النوع من البشر، مصطلح "صور الكهف".
بيد أن بيكون لم يستثن أحدا كما نفعل اليوم حيث نرمي تهمة الثرثرة والكذب على الآخر المختلف. يقول بيكون ما معناه إن كل واحد منا له كهفه الخاص الذي يتكون من ميوله وثقافته وبيئته ودينه ومذهبه وتربيته وعرقه، تتجذر فيه، وفيها وبها يعيش ويتباهى.
كم كان بيكون صادقا وواسع الأفق. لقد تحقق ما أتى به في عصرنا هذا حيث لكل واحد منا تقريبا مشاركة أو موقع "كهف" في وسائل التواصل وكل واحد منا ينطلق ضمن ثرثرته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي