تحالف سياسي تقدمي من أجل أوروبا

سوف يتوقف نوع الشريك الذي سيجده الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترمب في أوروبا إلى حد كبير على نتائج عمليتين انتخابيتين مهمتين في عام 2017: الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أوائل أيار (مايو) وانتخابات ألمانيا الفيدرالية بحلول نهاية تشرين الأول (أكتوبر).
بطبيعة الحال، سوف يخلف خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي تأثيرا ملموسا في هيئة أوروبا في المستقبل. وسيكون "الخروج البريطاني العسير" الذي نال قدرا كبيرا من الاهتمام أخيرا ــ خاصة منذ أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أنها تعتزم التركيز على الحد من الهجرة، حتى لو كانت النتيجة فقدان القدرة على الوصول إلى السوق المشتركة ــ كافيا في حد ذاته لتغيير الطريقة التي تعمل بها أوروبا.
وكما كتب رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس أخيرا، فإن السؤال الرئيس الذي يواجه زعماء أوروبا الآن هو ما إذا كان عليهم أن "يستسلموا ويتركوا المشروع الأوروبي لموت بطيء ولكنه مؤكد"، أو "يعملوا على تحويل الاتحاد الأوروبي". لن يكون مثل هذا التحول بالمهمة السهلة. إذا إنه لا يتطلب رؤية مؤسسية جديدة لأوروبا فحسب، بل يتطلب أيضا إعادة هيكلة سياسية كبرى، خاصة في فرنسا وألمانيا.
تتلخص إحدى الرؤى المؤسسية القابلة للتطبيق، التي وصفتها قبل التصويت على الخروج البريطاني، في إنشاء "مستويين من أوروبا في واحد". فتشكل دول منطقة اليورو "أوروبا أ" التي تتسم بالتكامل الأكثر عمقا، في حين تؤلف مجموعة أخرى من الدول "أوروبا ب" الأكثر تنوعا وتحررا من القيود". وسيكون الارتباط قويا بين المستويين، مع اختلاف بعض الترتيبات بين الدول الأعضاء المختلفة في "أوروبا ب". ومعا، يشكل الاثنان جزءا من "الشراكة القارية" في مرحلة ما بعد الخروج البريطاني، التي ربما تحل محل الاتحاد الأوروبي تماما في نهاية المطاف. وهي رؤية متطرفة بعض الشيء، ولا يمكن تحقيقها إلا إذا كانت القوى السياسية على استعداد لتقبلها، خاصة في فرنسا وألمانيا. ولا بد من توجيه القيادة السياسية في كل دولة ــ وتنشيطها في واقع الأمر ــ من خلال هدف إنقاذ "أوروبا". وهذا يعني على وجه التحديد ملاحقة سياسة اقتصادية قادرة على إيجاد التوازن بين الأسواق التنافسية والتضامن الاجتماعي، مع توافر مساحة كبيرة للتنوع المحلي.
في كل من فرنسا وألمانيا، ستعتمد هذه الديناميكية على التحالف بين قوى يمين الوسط ويسار الوسط المؤيدة لأوروبا ــ وهو التحالف القادر على التغلب على العناصر الأكثر تطرفا في كل من المعسكرين وتبديدها في نهاية المطاف، وبالتالي ضمان منع الميول السياسية المناهضة لأوروبا من عرقلة التقدم. ولإعطاء مثال ملموس ــ واستفزازي ــ للكيفية التي قد تبدو عليها عمليات إعادة التنظيم هذه في فرنسا: من الممكن أن يتعاون الرئيس المنتمي إلى يمين الوسط ألان جوبيه مع رئيس الوزراء إيمانويل ماكرون في محاولة لإنشاء حركة شابة تنتمي إلى يسار الوسط و"تتجاوز الماضي".
وفي ألمانيا، سنجد أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المنتمي إلى يمين الوسط ليس مؤيدا لأوروبا بالقدر الكافي في عموم الأمر. فداخليا، يقيده جناح محافظ تحدده وجهات نظر لا تتوافق مع التقدم الطويل الأمد في أوروبا. وخارجيا، يقيده حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، الذي تنامت شعبيته أخيرا.
في هذا السياق، حتى إذا حصل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بقيادة المستشارة أنجيلا ميركل على أغلب الأصوات في العام المقبل، فسيحتاج إلى المساعدة لبناء أوروبا جديدة، في ظل مزيد من المسؤوليات المشتركة للدول في "أوروبا أ" وترتيبات مرنة مع الدول في "أوروبا ب"، وعلى وجه التحديد، ينبغي للعناصر المؤيدة لأوروبا في الاتحاد الديمقراطي المسيحي أن تعمل مع الحلفاء على اليسار ــ بالتحديد، أغلب الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر.
الواقع أن هذا التحالف غير الرسمي كثيرا ما سمح للمشاريع المؤيدة لميركل بكسب التأييد في البرلمان، رغم المعارضة من العناصر اليمينية في الاتحاد الديمقراطي المسيحي. ولكن لإنقاذ أوروبا، لا بد أن يصبح هذا التحالف أشد عمقا وأكثر جدارة بالثقة، مع هيمنة أهداف مشتركة على أجندة مشتركة.
ولا تنفرد فرنسا وألمانيا بالحاجة إلى إعادة تنظيم القوى السياسية. فهناك احتياج واسع النطاق إلى توحيد قوى الإصلاحيين وأنصار العولمة الواقعيين للتصدي للحركات الشعبوية التي تسعى إلى تحريف الحنين إلى القومية المتطرفة التي بنيت بشكل كامل على سياسات الهوية.
لقد تغير العالم إلى حد كبير في العقود الأخيرة، وأوروبا ليست استثناء. ومن غير المعقول أن نتوقع أن تكون التحالفات القديمة قادرة على الاستجابة على النحو الملائم لاحتياجات السياسة أو الديناميكيات السياسية اليوم. ولنتأمل هنا كيف كان من الصعب أن تجد إسبانيا أغلبية جديدة ــ العملية التي استغرقت عامين حتى الآن ولم تنته بعد.
على هذه الخلفية، تكاد تصبح عملية إعادة ترتيب القوى السياسية حتمية؛ ويتجسد هذا بوضوح في التحولات والصراعات الحزبية التي اتسمت بها الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة. ولكن هذه العملية من الممكن أن تفضي إلى عدد من النتائج. ومن الأهمية بمكان، لتأمين مستقبل إيجابي ومنفتح ومزدهر لأوروبا، أن تكون القوى التي ستأتي على القمة هي تلك التي تدرك الفوائد الضخمة المترتبة على المجتمعات المفتوحة سياسيا واقتصاديا، فضلا عن الحاجة إلى سياسات وطنية وعالمية حريصة على تشجيع مزيد من الإدماج.
ولكن حتى لو تمكنت قوى يسار الوسط ويمين الوسط التقدمية من التغلب على نظرائها من الرجعيين، فلن يكون هذا كافيا. ذلك أن البنية السياسية التقليدية مهددة دوما بالوقوع رهينة للقوى الشعبوية التي تركز على الهوية. ولهذا السبب لا بد أن تتغلب المجموعات السياسية التقدمية الفكر، على الخلافات بينها بطريقة أكثر هيكلية لبلورة رؤية مؤسسية جديدة لأوروبا.
الواقع أن عملية إعادة الهيكلة السياسية العميقة التي تهدف إلى بناء أغلبيات تقدمية جديدة لن تكون سهلة يسيرة، ولن تحدث بين عشية وضحاها. ولكنه الخيار الوحيد المتاح لأوروبا. ودونه "تموت أوروبا، ويستمر الهجوم على الانفتاح الاقتصادي والقيم الديمقراطية في اكتساب مزيد من الثقل في مختلف أنحاء العالم ــ وبعواقب قد تكون مدمرة.

خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2016.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي