المساكن المغشوشة
يطلق على المساكن التي يتم تنفيذها بجودة سيئة وبأردأ أنواع المواد مصطلح (بناء تجاري)، وفي المقابل يتم الترويج لأغلب المساكن على أنها (بناء شخصي) كناية عن جودتها، وأنها تمت مراعاة أفضل المعايير الفنية في إنجازها، وكأنها بنيت ليسكن فيها صاحبها، كما انتشر أخيرا في وسائل التواصل الاجتماعي مصطلح (فلل الكراتين) كناية عن الوحدات السكنية التي تتهالك بمجرد استخدامها لعدة أشهر؛ بسبب سوء التنفيذ، ووجود الغش في البناء أمر وارد، لكن المشكلة أن تكون ظاهرة، وأن تتنامى لتجعل المواطن الراغب في السكن في تخوف دائم من أن يكون مصيره السكن في إحدى تلك الوحدات السكنية التي لا يدري متى ستتساقط أجزاؤها فوق رأسه رؤوس عائلته. ولنعرف مسببات هذه الظاهرة وكيفية معالجتها ننظر إلى النظام الذي من المفترض أن يضبط جودة بناء المساكن، وكيف أن ضعف هذا النظام ومن ثم انعدام المراقبة تقريبا وطول إجراءات العقاب الرادع تجعل من الغش في بناء المساكن أمرا مستسهلا لمن يريد الحصول على المكاسب السريعة، وهذا النوع من البناة لا يمكن أن نطلق عليهم وصف (مطور عقاري)؛ لأن أساس الاستدامة في مجال التطوير العقاري يعتمد على سمعة المطور، التي ترتكز بشكل أساس على جودة منتجاته السكنية التي قدمها خلال مسيرته في مجال التطوير، وهؤلاء الدخلاء على المجال الذين لا يراعون أدنى معايير الأمانة والمهنية يجب أن يسموا بالغشاشين أو المحتالين، لكن لا يمكن تسميتهم بالمطورين.
وفقا لإحصاءات وزارة الشؤون البلدية والقروية لعام 1436هـ، فإن إجمالي مسطحات البناء السكنية التي صدرت رخصها في جميع مناطق المملكة تقدر كحد أدنى بـ 60 مليون متر مربع ـــ أي قرابة 133 ألف وحدة سكنية بمسطح بناء 450 مترا مربعا للوحدة ـــ، وهذه المساحات السكنية الضخمة من المفترض أن تدخل سوق الإسكان بشكل متدرج خلال السنوات الخمس المقبلة، وستمثل عبئا اقتصاديا في حال التساهل، وعدم إيجاد حل جذري لنظام بناء المساكن، والرقابة على جودته، وتفعيل معاقبة الغش فيه، فالمشكلة تبدأ من المشتري الذي انخدع بهذه الوحدة السكنية ليشتريها عن طريق التمويل ثم تبدأ المأساة باكتشاف التشققات والتصدعات في المبنى، وهنا سيضطر المشتري إلى أن يترك المنزل ليستأجر منزلا آخر، وحينها سيتحمل قسط المنزل المغشوش؛ لأن الممول لن يتوقف عن سحب قسطه الشهري بسهولة، وكذلك إيجار بيت آخر ليؤويه وعائلته، ثم تبدأ دوامة الشكوى للجهات القضائية التي غالبا ما تحتاج إلى مدة طويلة حتى تفصل في القضية وتعوض المشتري المتضرر، وهنا نجد أن المشتري تضرر والممول لحقه الضرر، كذلك لأنه سيكون في المنتصف بين المشتري والبائع، وزاد العبء على المحاكم بزيادة هذه القضايا التي هي نتاج لتخلي الجهات المسؤولة عن واجبها ممثلة في وزارة الشؤون البلدية والقروية في الدرجة الأولى، التي لم تُفعِّل كود البناء السعودي الذي يحوي تفاصيل دقيقة ومعايير فنية تم استخلاصها من خلال مراجعة المعايير العالمية في هذا المجال، والكود الذي تم إنجازه منذ تسع سنوات تقريبا موجود في موقع الوزارة، لكن لم نجد أي تفعيل له على أرض الواقع خاصة فيما يتعلق ببناء المساكن، وتفعيله لا يكون بعرضه فقط في الموقع الإلكتروني ولكن بتطبيقه على أرض الواقع ثم مراقبة التطبيق بشكل دقيق وجاد، وعمل التعديلات والتحديثات اللازمة بشكل دوري كما هو معمول به في كل الدول المتقدمة، ومن المفترض أن مراقبة التطبيق تكون عن طريق البلديات التي مع الأسف لا نجد لها أي دور يذكر في هذا الجانب، ففي جميع مراحل البناء من أعمال الحفر وتهيئة الموقع إلى الأساسات والقواعد ثم الهيكل الإنشائي وإنجاز الأعمال الكهربائية والصحية وغيرها من مراحل البناء حتى اكتمال المبنى وتشطيبه لا بد أن تخضع كل مرحلة لفحص مراقبي البلدية، فلا ينتقل المقاول من مرحلة إلى أخرى إلا بعد الحصول على اعتماد من مراقب فني مؤهل من البلدية، يصادق على أن ما تم إنجازه في هذه المرحلة موافق لاشتراطات ومتطلبات كود البناء السعودي. وبهذا الشكل سنضمن الحد الأدنى من الرقابة على أعمال الإنشاء للمساكن، وسنحمي المواطن من الوقوع في خسارة أكبر استثمار في حياته، ألا وهو المنزل الذي يؤويه.
الخلاصة، الأساس الذي نحتاج إليه للبدء فورا في تفعيل الرقابة على بناء المساكن هو كود البناء، الذي ينتظر التفعيل من تسع سنوات، والخطوة التالية أن تتحمل البلديات مسؤوليتها بعمل برنامج رقابة محكم وصارم ليحد من أعمال الغش والاحتيال في بناء الوحدات السكنية، ويبدأ ذلك بتأهيل مراقبين فنيين على مستوى عال من الإمكانات الفنية والتقنية ليتمكنوا من أداء مهامهم بيسر وسهولة، فالسوق لا تحتمل إدخال خطوات إضافية تعطل عملية البناء، وذلك بإعطاء مواعيد متباعدة للفحص أو محاولة التلاعب بالنتائج بسبب الفساد، لكن يحتاج إلى أن تكون الرقابة جزءا من منظومة متكاملة تعزز الإجراءات وسرعتها، وتحافظ على الجودة المطلوبة، وكل هذا معمول به في دول أخرى، لكن نحتاج إلى إدارة عليا لديها الرغبة في تحسين الخدمات والرفع من مستواها.