Author

رحلة خيالية إلى مدينة الضرائب

|
يستمتع الاقتصاديون بالحديث عن الضرائب، وهو حديث مثير للجدل يتبنى معظمهم فيه وجهات نظر محددة لا يمكن إثباتها على أرض الواقع بسهولة. قد يتطلب الأمر سنوات عدة لتظهر نتائج نموذج ضريبي معين. وعلى الرغم من أن الأنظمة الضريبية تطبق على مستوى الدول ويخضع لها الأفراد والمنشآت على حد سواء، إلا أن الحديث عنها على المستوى الفردي مختلف، وهو مثير للجدل أيضا، ومفزع ومفاجئ كذلك. بالتأكيد هي ليست بتلك التجربة المثيرة للحماس أثناء الفهم والتخطيط ولا الماتعة في الممارسة والالتزام. لنتخيل معا ما الذي سيختلف في حياة الفرد عندما يصبح أكثر قربا للأدوات الضريبية، كيف سيؤثر ذلك في سلوكياته المالية والحياتية، وربما حتى طريقة تفكيره. هناك بالطبع نتائج اقتصادية واجتماعية تطمح الدول والحكومات إلى الوصول إليها بعد تدشين الأنظمة والأدوات الضريبية ولكن لنتجاهل الأهداف المرجوة لبرهة ونركز النظر على الجانب الفردي من وجهة نظر الفرد نفسه. مجرد استعراض تخيلي سريع لمراحل التحول من حياة بلا ضرائب إلى أخرى تختلف كثيرا. الدخول إلى عالم الضريبة ومتطلباته الإلزامية يعني إحداث تطور نوعي في مستوى تفاعلنا مع النظام المالي الذي نعيش فيه، سواء كانت الضريبة مباشرة أو غير مباشرة، تصاعدية أو ثابتة، على الدخل أو على الممتلكات. أولا، سيتغير مفهومنا للقيمة التي نحصل عليها مقابل الضريبة، فما كنا نتعامل معه بأنه حق أو عادة أو مجرد "خير وبركة" سيصبح أداء لمقابل. سيكون هناك تصور لحدوث تعويض معين ثم نحدد بقناعة شخصية خاصة عدالة هذا التعويض، في عملية ربط مباشرة بين الحقوق والخدمات وما يتم سداده من ضرائب. لهذا، نكتسب بعد الضريبة مفاهيم وقناعات جديدة ومختلفة. تعد هذه القناعات من النتائج الطبيعية لتطور التطبيقات الضريبية خصوصا من الناحية الثقافية والاجتماعية. سيصبح استشعار أسباب مساهمتنا في النموذج الحضاري الاقتصادي أسهل وذلك لدخول التضحية الشخصية من أجل المجتمع وما يقدم للمجتمع ـــ بشكل أكثر مادية ــــ في المعادلة. بعد ذلك سيبدأ الفرد بإدخال عنصر التكلفة الجديد هذا إلى حساباته الخاصة المتعلقة بالتزاماته المادية. وحتى يتمكن من ذلك، سيحاول أن يعرف كيف تعمل هذه الضريبة ـــ سيقرأ ويسأل الآخرين عن طريقة عملها وعن معدلاتها واستثناءاتها ــــ وكيف تؤثر في نهاية الأمر في المبلغ الذي يقوم بسداده. سيفهم كل واحد منا هذا التأثير جيدا، سواء بالطريقة الاستباقية السهلة أو بالطريقة الصعبة بعد السداد. سيُعد بعضنا حساباته الشهرية بشكل جيد ويأخذ في الحسبان تأثير ضريبة القيمة المضافة في مشترياته، وسيعمل على احتساب تأثير بعض الرسوم الأخرى في تكلفة تمويل قروضه الشخصية والسكنية وتكلفة شراء الأرض وبنائها. سيفكر جيدا في عدد "السلندرات" في سيارته والنجوم في ثلاجته، سيعرف بشكل جيد علاقة الضريبة البيئية بمحفظته. ربما سيتعرف مع مرور الوقت على الشركات التي تملك بعض الحوافز الضريبية وكيف تقدم منتجاتها بقيمة أفضل من تلك التي تتكبد مزيدا من التكلفة، سيفضل منتجات هذه الشركات وربما سيختارها أيضا عندما يهم بالاستثمار. على الجانب الآخر، سيتجاهل بعضنا التأثيرات الضريبية ولكنه لن يبتعد عن عواقبها، سيؤول به تجاهله إلى ضيق مالي أكبر من الذي كان يعيشه. يميز كذلك الفرد الواعي ضريبيا بين النطاقات الضريبية، سيعي جيدا الفروقات بين المناطق والخدمات والمنتجات، سيعرف ما هو معفى من الضريبة وما هو خاضع لها، ومع مرور الوقت سيبدأ في الاستفادة من هذه الفروقات ليغير مجال عمله ومدينته التي يسكنها وربما طريقة أكله وشربه. وهذا مجرب من قبل معظم الدول المتقدمة ضريبيا، لقد شاهدت بعض المبتعثين يقوم بذلك عندما يقوم باختيار الولاية التي يدرس فيها. أما إذا وصل الفرد إلى مرحلة ضريبة الدخل الإلزامية ـــ وأعتقد أن هذا أمر مستبعد محليا في الوقت الحالي ــــ فإنه يدخل إلى درجة مختلفة جدا من التفاعل المالي، فالأمر لا يرتبط بالرغبات وإنما بمسؤوليات يعاقب عليها القانون الذي يفعل جيدا في عالم الضريبة. سيقوم برصد مداخيله ومصاريفه مجبرا لا مختارا. سيحرص على متابعة حركة أمواله ابتداء من قسيمة إيداع الراتب عند كل شهر. سيقرأ تفاصيلها جيدا، ويحتفظ بها في ملف خاص في منزله. سيجمع الفواتير والإيصالات التي تتوزع بين سيارته ومنزله ومكتبه تلك التي يرميها عادة عند الشراء ويتخلص منها مع الأكياس وأوراق التغليف. ستتغير نصائحه لأهله حول العادات الاستهلاكية مركزا اهتماماته حول ما يمنحهم المكتسبات الضريبية ويبعد عنهم التزاماتها. وهكذا ستصبح حياة الفرد المالية أكثر تفصيلا ورتابة، ستكثر العناصر التي تؤثر في قرارات البيع والشراء والادخار والاستثمار، وتبدأ بدائل الحصول على الخدمات بطرق جديدة ومختلفة في الظهور. ستصبح القرارات أصعب ولكن بالتأكيد أكثر موضوعية. وهذا ربما ما يفقده الكثيرون الذين يعيشون بلا ضرائب؛ عالم مفتوح بلا حوافز ولا جزاءات تعتمد فيه حصافتهم المالية على وعيهم الذاتي فقط.
إنشرها