بريطانيا يوم الجمعة
قد تكون بريطانيا يوم غد الجمعة بلا رئيس الوزراء ديفيد كاميرون. فالرجل ربط مصيره السياسي تماما بنتيجة الاستفتاء الذي يجرى اليوم في المملكة المتحدة، حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه إلى غير رجعة. فالمسألة لم تعد سياسية بل شعبية، وهي ليست مشروعا يتعرض لخلافات في الرؤى، بل هي مصير بريطاني جديد تماما. لا يشبه ما كانت عليه بريطانيا قبل الاتحاد ولا يشبهه بعد الخروج منه، إن تم التصويت على الخروج فعلا. ورغم أن استفتاء اليوم هو استفتاء استرشادي أو استشاري، إلا أن نتائجه لن تكون كذلك على الإطلاق. فبريطانيا لن تكون كما هي إذا خرجت، إلى درجة أن هددت رئيسة وزراء إسكوتلندا بالانفصال عن المملكة المتحدة في حال الخروج. في عصر الاتحاد الأوروبي لم تعد المملكة المتحدة دولة من أربعة أقاليم، بل دولة أوروبية تصادف أنها تجمع أربعة أقاليم.
التباين في المواقف من البقاء أو الخروج من الاتحاد كبير، بل لنقل التماهي بين الداعين للخروج وأولئك "المحاربين" للبقاء يسود الساحة الاستفتائية. نقطة إضافية لهؤلاء مرة. ونقطة إضافية أخرى لأولئك مرة أخرى. لا يوجد فارق يمكن المراهنة عليه. والاستفتاء لن يحسم القضية التاريخية هذه حتى اللحظة الأخيرة. لندع الورطة التي أوقع ديفيد كاميرون نفسه والبلاد فيها بالدعوة لمثل هذا الاستفتاء. لقد تمت وكان ما كان. المهم الآن، ليس الخروج أو البقاء، بل تركيبة المجتمع البريطاني في مفهومه للعلاقات مع أوروبا، وبالتالي مع العالم أجمع. نصف البريطانيين يعتقدون أن عودة بريطانيا مستقلة تماما من حيث الإجراءات، تعني أنها ستكون قوية مع سيادتها الكاملة، بعيدا عن تشريعات أوروبية هنا وهناك. والنصف الآخر، يرى أن هذه كارثة لن تلحق بالبريطانيين الحاليين فحسب، بل بأولادهم وأحفادهم.
المجتمع منقسم، وهذا وحده يمثل مخاطر كبيرة، لأن بريطانيا التي تعد من أكثر البلدان الغربية انفتاحا اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، تعاني من أن نصف سكانها شعبويون. والشعبوية لا تعني الوطنية، بل تعارضها. ومهما فعل "الشعبويون" لإضفاء تلك الوطنية، فإنهم يسقطون في أول امتحان. المسألة بعيدة عن الوطنية إلى القومية الجافة المظلمة. لا يهم الآن مناقشة هذه المسألة. بعد ساعات ستحدد بريطانيا مصيرها الأوروبي أو البريطاني الضيق جدا. ولنقل الإنجليزي الضيق، إذا ما أخذنا في الاعتبار موقف الإسكوتلنديين الداعم للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وكذلك الأمر بالنسبة للأيرلنديين، وشريحة واسعة من سكان ويلز. لن تتغير الأمور إذا ما صوت البريطانيون للبقاء في الاتحاد الأوروبي. فرئيس الوزراء كاميرون حصل بالفعل على ما يريد من تنازلات أوروبية طوال العامين الماضيين لتسويق الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء البريطاني. وكانت تنازلات سخية حقا.
أما في حال التصويت بالخروج من هذا الاتحاد، فبريطانيا لن تستمر كما هي، بل لن تعود كما كانت. ومن يقل غير ذلك، يكن من أولئك الذين انضموا إلى حملة من التضليل لا تحتاج إليها البلاد الآن على وجه الخصوص. الجنيه الاسترليني سيتغير. سوق المال العريق في لندن سيتبدل. المؤسسات والشركات "المغرمة" في لندن ستغادر. نفوذ بريطانيا سيتراجع كثيرا. وأشياء أخرى ستتبدل بصورة ستغير معالم البلاد. لم يكن الانضمام للاتحاد الأوروبي أمرا عابرا. إنه التزام بمستقبل منطقة أثبتت (حتى الآن) أنها أفضل المناطق إنتاجا لاتحاد سياسي اقتصادي، بصرف النظر عن الثغرات الموجودة فيه. المسألة هنا لا علاقة لها بالسيادة الوطنية، بل بحقائق التطور التي تفرض معاييرها، سواء كانت بريطانيا في الاتحاد أو خارجه.