النمطية في المجتمعات العربية
لا نبتعد عن الواقع الاجتماعي كثيرا إن قلنا إن محاولات الدول والمجتمعات العربية دخول العصر الحديث قد باءت بالفشل.
هناك مؤشرات عديدة أن الوضع القائم بعيد عن الحداثة. أغلب التقارير الدولية المحايدة تشير إلى تقهقر لا بل تخلف في معطيات الحداثة من تربية وتعليم وقراءة وترجمة وتأليف.
بيد أن أخطر ما تواجه الدول والمجتمعات العربية يكمن في النمطية أو التنميط الذي يأخذ الماضي كما هو معيارا لما يجب أن يكون عليه الحاضر.
الحداثة في حد ذاتها تعني أن الحاضر أهم بكثير من الماضي. الماضي، في عيون الحداثة انتهى، وشوقنا وحنينا إليه لن يعيده.
والحداثة هي قراءة جديدة للحاضر والماضي أيضا. الحاضر هو الجوهر والماضي وجوده لدعم الحاضر وتمكينه من مواجهة الحياة بعصرنتها وحداثتها.
والحداثة لا يجوز حبسها في إطارها النظري. إنها ممارسة وسلوك. والدخول إلى العصر الحديث يعني المساواة والتسامح مع المختلف عنا باختلاف ميوله ومنحه ذات الفرصة للتعبير عن رأيه وميوله التي أمنحها لنفسي.
والدخول إلى العصر الحديث يعني محاسبة السلطة أي سلطة، دينية كانت أو مدنية. بمعنى آخر نكون كلنا تحت وطأة القانون باختلاف مناصبنا وأجناسنا وجنسنا ولوننا وميولنا.
العصر الحديث لا يقبل الوصاية وعلى الخصوص الوصاية التي تستند إلى قراءة محددة لنص محدد. بمعنى آخر أن أختار النص وأنا أختار التفسير وما عليك إلا الطاعة والتنفيذ.
والوصاية على النص وتفسيره تدخلنا في باب النمطية الخطابية discursive stereotyping التي من خلالها يمنح تنظيم أو شخص لنفسه الحق أن ما يقتبسه وما يقدمه من تفسير هو الحقيقة المطلقة وغيرها لا يعتد به.
ويذهب أمثال هؤلاء أبعد من هذا عندما يستغلون مناصبهم لإقحام أنفسهم في نمطية خطابية ينزلون بواسطتها الويلات على أي قراءة تخالفهم وحتى الإتيان باقتباس يعاكس اقتباسهم ويفند تفسيرهم.
التشبث بنمطية خطابية واحدة ومن ثم ممارستها على أرض الواقع وأحيانا بشكل متطرف عنيف مؤشر جلي على أن بعض العرب لم يدخلوا العصر الحديث.
وخطورة النمطية الخطابية هذه لا تقتصر على المجموعات المتطرفة التي تلجأ إلى العنف المفرط في ممارساتها.
كل فرد أو مجموعة أو نظام يمنح نمطيته الخطابية العصمة وأنها هي لا غيرها الحل والحياة ويشكل خطورة على نفسه أولا وعلى مجتمعه ونظامه.
والنمطية الخطابية التي تقود العقل العربي وتعيده إلى الخلف بدلا مواجهته للحاضر ليست وليدة اليوم.
في كثير من الأحيان يجري تغذيتها من خلال الإعلام والتدريس والخطب ووسائل أخرى.
كل ما تجتره هذه النمطية الخطابية لا يتجاوز الحنين إلى الماضي، أي أن العقل العربي في الماضي كان أجدر وأنفع وأكثر حداثة من اليوم، وعليه يجب على الكل العودة إلى الوراء.
وهذه مفارقة عجيبة لأنها تعني أن العقل العربي متوقف عن العمل ومنذ قرون طويلة ويجب حشوه بما استنبطه الماضي كي يتحرك من جديد.
بيد أن العقل في هذه الحالة وإن نهض من سباته، سيشتغل ضمن نطاق النمطية الخطابية التي كانت سائدة في الزمن الغابر وليس استجابة لمتطلبات الزمن الذي نحن فيه.
وهكذا نرى أناسا اليوم تتباهى بالماضي وهمها تقليده في كل شيء حتى في الملبس والمأكل والمظهر وكأنها لا إرادة لها ولا تفكر أبدا في تشغيل عقلها بنفسها.
ويعول هؤلاء على التفاسير التي كانت سائدة في الزمن الغابر التي أتت استجابة لواقع اجتماعي مختلف تماما عن الذي نعيشه اليوم.
هذه التفاسير وتنميطها الخطابي أتت استجابة لمتطلبات زمانها ومكانها.
وبما أن زماننا ومكاننا يختلفان، فلابد وأننا في حاجة إلى تفاسير وأنماط خطابية جديدة وممارسات تستجيب لمتطلبات عصرنا هذا.
المفسر أو الواعظ أو الداعية أو الشيخ أو العالم أو المثقف الذي ليس بإمكانه تشغيل عقله كي يوائم عصره ويستند إلى تفسير واءم زمانا ومكانا في الماضي لا يحق له الوصاية على العباد.
العقل الذي يقف عند مرحلة أو ثقافة أو تفسير كان سائدا في الزمن الغابر ولا يقبل مواجهة الحداثة والتمدن يفيد ذلك الزمان وليس زماننا. من الخطأ منح هؤلاء مكانة أو منصبا أو منبرا للتلاعب مباشرة بعواطف الناس وقيادتهم.
ولن يدخل العرب العصر الحديث طالما بقي أمثال هؤلاء يفرضون نمطيتهم الخطابية البالية على الناس وطالما ظل الناس والنظم تتنازل لهم عن أهم امتياز منحه الله لنا كبشر ألا وهو الحق كل الحق في القراءة وإشغال عقلنا دون الاتكاء على الآخرين.
سيدخل العرب العصر الحديث عندما تسنح لهم الفرصة للقراءة والتعبير عن استيعابهم للنص دون تدخل من الذين خطفوا النص ولا يزالون يعيشون في نمطية خطابية أكل عليها الدهر وشرب.