أمة الماعون

في هذا الشهر الفضيل تراودني أفكار كثيرة. بعضها يشدني إلى الحاضر والآخر يأخذني بعيدا إلى الماضي.
والعرب والمسلمون يأخذ الماضي بألبابهم. قد لا نبتعد عن الحقيقة كثيرا إن قلنا إن الماضي يتحكم فيهم.
فإن أراد العرب والمسلمون إغداق مديح على أمرئ، أتوا له بمثال من الماضي أو قارنوه بشخص كريم صديق صالح من الزمن الغابر.
وإن أرادوا ذمّ امرئ، ذكروا مثالا من الماضي أو قارنوه بشخص شرير كان عالة على نفسه ومجتمعه في الزمن الغابر.
وإن أرادوا التعبد والتقرب إلى الله، حاولوا تتبع سيرة من هم في نظرهم من الصالحين.
التاريخ يتحكم فينا، مهما زاد تمدننا وتفوقنا ومها كانت درجة السبق التي نملكها في تطويع العلم والمعرفة وأسلوب الحياة.
وأفضل دليل للبرهنة على تحكم الماضي فينا هو الخطاب الذي نستخدمه في الإشارة إليه.
خطابنا جلّه من الماضي. الرموز والأحداث التاريخية تعيش معنا. نتفاعل معها، لا بل تصاحبنا وتتحدث إلينا ونجري حوارا مستمرا معها.
نحن والماضي في عملية "حوارية" dialogism لا انفصام في عراها، كما يقول فيلسوف الخطاب واللغة ميخائيل باختين.
لا أعلم ماذا كان سيضيف هذا الفيلسوف الكبير لنظريته الحوارية التي أتى بها لو أنه درس حاضر العرب والمسلمين وكان شاهد عيان لما يحدث في شهر رمضان المبارك.
"الحوارية" حسب باختين يجب أن تكون في أقل تقدير ثنائية المنحى. و"الحوارية" في الغالب لها مركز يستقطب أو ربما يسيطر على المتحاورين.
وكل نص، يقول باختين، حتى وإن كان كلمة واحدة له خاصية الحوارية وإن كان مرميا على رف ومنسيا. النص، يضيف هذا الفيلسوف العملاق، له قابلية الحوار مع نفسه.
النصوص تتحاور مع نفسها ومن ثم تدخل معنا وندخل معها في حوار.
وأنا أراقب قدوم شهر رمضان هذه السنة راودتني فكرة أو نظرية "الحوارية" وكيف أن الذكر الحكيم صار مركزا يتكئ عليه (من خلال الإسناد المباشر أو التعبيري) العرب والمسلمون.
يهرع العرب والمسلمون إلى كتابهم في هذا الشهر المبارك. الكتاب يغير في حياتهم وطريقة تفكيرهم وأسلوب معيشتهم. يغير في أسواقهم ومأكلهم وشربهم.
الكتاب مركز الحوار، يحدد للعرب والمسلمين طريقة تفكيرهم وحوارهم معه ومع أنفسهم.
والحوارية هذه أثرت وتؤثر تأثيرا بالغا في خطاب العرب والمسلمين.
والحوارية استنبطت لنا تسميات للدلالة على اتباعه، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، "أمة اقرأ" أو "أمة القرآن" أو "أمة محمد" وغيرها كثير.
ووقع التسميات كبير لأنها تحدد الإطار الذي ننظر به إلى الآخر لا سيما المختلف عنا. ولهذا قد تكون التسمية محببة ومرغوبة وقد تكون مسيئة وبغيضة.
هل يحق لي كمتشبع بالحضارة العربية والإسلامية استنباط تسمية استنادا إلى قراءتي الخاصة؟
قراءتي للتاريخ والذكر الحكيم ومشاهداتي من قرب لما يحدث في هذا الشهر الفضيل تشجعني على إضافة تسمية "أمة الماعون" على الألقاب المحببة التي تطلق على العرب والمسلمين وتستقي جذورها من الذكر الحكيم.
لماذا "الماعون"؟
"الماعون" سورة من سور الذكر الحكيم تطفح إنسانية وتسامحا ومحبة.
والقرآن يعطي آفاقا جديدة لكلمة "الماعون" كلغة. يربطها بالإحسان ويربطها بالمساواة بين الذي يملك "الماعون" والذي لا "يملكه".
كلمة "الماعون" كما ترد في الذكر الحكيم لها حوارية عجيبة، ولها مركزية مع دلالاتها وتتحاور في الأغلب مع نفسها ومن ثم مع متلقيها لأنها تفحمه وتجعله يقف مشدوها منبهرا ومن ثم معاتبا لنفسه لأنه لا يحق له أن يستحوذ على "الماعون".
كلمة "الماعون" تصرخ في الوجه صرخة مدوية لأن "الماعون" شراكة مع المسكين واليتيم والمحتاج، والاستحواذ عليه بأي طريقة له عواقب وخيمة بدلالة كلمة "ويل".ومنع "الماعون" إن حللنا النص حسب التحليل النقدي للخطاب، تأتي في صيغة المضارع التام present perfect ومعناه أن المنع لا زمن له، ليس ماضيا وليس حاضرا وليس مستقبلا.
وصيغة المضارع التام تؤشر إلى الأزمنة الثلاثة وبهذا يكتسب النص بعدا كونيا من حيث الزمان والمكان، أي على المتلقي في أي زمان ومكان عدم منع "الماعون" عن الذي لا يملك "الماعون".
وهناك خمسة أفعال في سبع آيات التي هي مجمل سورة الماعون: "أَرَأَيْتَ، يَدع، يَحض، يرَاءونَ، َيَمْنَعونَ". كل هذه الأفعال هي في صيغة المضارع التام.
ولأن المضارع التام ليس ماضيا وحسب وليس مضارعا وحسب وليس مستقبلا وحسب بل هو الماضي والحاضر والمستقبل، نكون أمام نص لا مفرّ للمتلقي (صاحب الماعون) منه.
وإن أخذنا كلمة "الماعون" وحللناها حواريا وخطابيا ونقديا، لرأينا أن "الماعون" يرافقنا في حلنا وترحالنا وهو الذي منه نستقي سبيل معيشتنا.
بيد أن هذه "المعيشة" يجب أن يشاركنا فيها الذي لا يملكها. هل وصلت "أمة الماعون" إلى الدرجة التي تريدها لها "سورة الماعون" من حيث المحبة والإحسان والتسامح وقبول الآخر المختلف؟
كم أتمنى أن يتم تأسيس منظمات إنسانية عربية وإسلامية في سبيل الإحسان وحقوق الإنسان وتدرج تحت مسميات تكون كلمة "الماعون" القرآنية واحدا منها.
ورمضان مبارك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي