البيروقراطية .. ومثال المختبر الصحي الوطني
لم تكن البيروقراطية عائقا أمام التطور والإنجاز، البيروقراطية فكرة للتنظيم، فكرة لمحاربة الفساد، لكن أن تصبح هي الفساد بعينه تلك كارثة تنظيمية ومرض عضال يجب علاجه. يجب ألا يفكر أحد في التخلص من البيروقراطيين فالتخلص منهم أمر خطير على توازن بيئة الأعمال، وسيؤدي التخلص منهم ومن فكر البيروقراطية إلى انتشار الفساد أكثر مما نتصور حتى يصعب العلاج. المسألة تشبه التوازن البيئي تماما، يجب علينا المحافظة على مستويات معينة من كل نوع إداري حتى نحافظ على مستويات عالية من النزاهة الإدارية، وإذا حصل وانحدرت أي مؤسسة إلى الفساد فإن هناك مشكلة في التوازن وقعت في مكان ما. هذه المقدمة ضرورية لنفهم الأسباب التي تجعل مشروع المختبر الوطني الصحي يتأخر 12 عاما ويصبح مأوى للعمالة السائبة والمواشي والكلاب الضالة. وبناء مدرسة يتأخر 11 عاما ولم ينجز بعد، وجسر تم الانتهاء من بنيانه ولم يتم رصفه بعد، فالمسألة ليس فيها سرقة ولا اختلاسات، ليس هناك مصلحة لأحد من هذا التعثر، بل هناك عمل بيروقراطي أكثر مما نحتاج في هذه المشاريع، هناك خلل في التوازن يجعلنا في كل مرة نعيد تقييم الإنجاز لأنه صادف تغييرا وزاريا والوزير الجديد لا يوقع على أمر لا يعرف تفاصيله وتحضير الدراسات والشروح الجديدة أمر مرهق ولا تتوافر معلومات سريعة عن المشاريع في أطراف اهتمامات الوزارة والوزير الجديد. فمثلا الشركة المنفذة لمشروع "المختبر الصحي الوطني"، أنهت تنفيذ ما هو مطلوب منها – وفقا لتصريحات صحافية – منذ فترة طويلة، الوزارة لها إطار من خطط تطويرية، وتغير الإطار فتغيرت الخطط وأولويات المشاريع كثيرا في السنوات الأخيرة. وحري بنا أن نستذكر هنا الدور الكبير والجهود المضنية التي بذلها عبدالله زامل الدريس وكيل وزارة الصحة لشؤون المختبرات وبنوك الدم وعضو مجلس الشورى سابقا في محاولات جادة لتأسيس وإظهار هذا المختبر الذي سيكون مرجعيا لمنطقة الشرق الأوسط، إلا أنه رغم تعاقب عدد من الوزراء ورغم جاهزية هذا المختبر من الناحية الإنشائية منذ نحو سبع سنوات وصرف عليه أكثر من 250 مليون ريال، إلا أنه لم يستفد منه ولم يشغل التشغيل المأمول من إنشائه. المشروع سيئ الحظ تعرض لخطوات تنفيذية عدة بدءا من عام 2004 حين طرح على الشركات الوطنية ثم في 2006 وقع عقد المختبر الوطني، وفي عام 2009 أكدت "الصحة" أنه تم تنفيذ 85 في المائة من مشروع المختبر الصحي الوطني، والآن ونحن نعبر أواسط عام 2016 يقف المبنى متهالكا تعيش فيه العمالة السائبة، قبل أن يوجه المهندس خالد الفالح وزير الصحة، بسرعة تجهيز وتشغيل المختبر الصحي الوطني في الرياض ليكون أول مختبر مركزي عالمي من نوعه في السعودية والشرق الأوسط كونه سيشكل دورا مهما في المشاركة في شبكات المراقبة الوطنية والدولية وتحسين نوعية الخدمات المخبرية بشقيها العام والخاص.
أمثلة لا حصر لها، وفي كل يوم هناك مشاريع متعثرة ليس للمقاولين يد في تعثرها، بل يصعب أن تجد تفسيرا واضحا عن تأخر تنفيذها، تتوقف اليوم مئات المشاريع ليس بسبب شخص بعينه، بل بسبب غياب العمل المؤسسي في الوزارات، غياب التفويض الصحيح للقرار، غياب الحلول الإبداعية. ولو بحثنا سنجد مع كل مشروع معاملة نائمة في درج موظف في إجازة أو كتب عليه للرفع للوزارة، أو أنها تاهت بين بنود الميزانية في كل عام، وتفشل الوزارة وموظفوها في إقناع المالية بضرورة تمويل المشروع، وفي آخر المسار سوف يتحول المشروع إلى رقم في صحيفة تتابع عدد المشاريع المتعثرة، لتبقى المشاريع في انتظار أن يصادفها الحظ ووزير يقرر كيف يتعامل مع المشاريع وينجزها، لا أن يجمدها ويهمشها.
ويبقى السؤال قائما: لماذا حصل كل هذا التعطيل للمختبر الصحي الوطني ومن المسؤول عن ذلك ولمصلحة من؟! وهل يتم افتتاحه كاملا أم يظل على حاله ليبقى خاويا، باستثناء أنه أصبح مقرا للعمالة السائبة والحيوانات والكلاب الضالة.