فوضى في الاقتباس
هناك عدد من السلبيات على الإعلام العربي. وإن بدأنا في كتابة سلسلة من المقالات عن هذه المآخذ ربما استغرق الوقت منا طويلا، وقد لا نأتي إلى نهايتها.
مشكلة بعض وسائل الإعلام في العالم العربي مشكلة عويصة.
تتجلى أكثر ما تتجلى في ضعف استقلاليتها.
فهو إعلام تمتلكه في الغالب دول ومؤسسات.
في اللحظة التي توقف هذه الدول والمؤسسات الدعم، لانتهى دوره وأقفل أبوابه وتشتت العاملون فيه.
وحدث هذا مرارا في الماضي وقد يحدث في المستقبل.
وأي تهديد بالغلق يشكل مصدر قلق للمحررين والصحافيين والإعلاميين الآخرين.
عندما يكون مصدر الرزق على المحك، الناس قد تتصرف بما قد لا تشتهيه أو تقوم بممارسات لرفضتها لو كانت في واقع اجتماعي مختلف.
واليوم ليس بإمكان المرء أن يؤشر إلى وسيلة إعلامية بإمكانها تسيير أمورها ماديا بصورة مستقلة دون الاتكاء على داعميها.
والخطاب ـــ أي خطاب ـــ كما أكدنا في هذا المنبر مرارا ــــ يعكس الواقع الاجتماعي مثل المرآة والواقع الاجتماعي يشكل الأطر الخطابية التي من خلالها بإمكاننا تمحيصه وإلقاء الضوء عليه.
ودعني هنا آخذ إطارا خطابيا واحدا، يعد من أسس الكتابة في الإعلام. وفي الواقع، المفروض أننا لا نستطيع ممارسة الإعلام دونه.
الإعلام السليم والنزيه هو الذي يجمع المعلومة ويعرضها للقارئ دون تدخل منه أو من الداعمين أو ميولهم أو مواقفهم.
ولهذا يستند الإعلام الرصين إلى نقل المعلومة كما هي حتى وإن تعارضت مع توجهات الصحافي الذي ينقلها أو المحرر الذي يحاول التأكد أن معايير النزاهة متوافرة فيها أو حتى توجهات المؤسسة الإعلامية ذاتها والذي يقف وراءها.
وأفضل إطار خطابي لنقل المعلومة بالحد الأدنى من التدخل والتشويه هو الإسناد ـــ أي أن نسند كل معلومة في الخبر الصحافي مثلا من سطره الأول إلى سطره الأخير من خلال الاقتباس بأشكاله المختلفة.
والتوازن والعدالة في نقل المعلومة من خلال الإسناد من الأهمية بمكان.
ونقل المعلومة من مصادر باستطاعة المتلقي التحقق منها ومن مكانتها لعمري من المسائل التي لا بد منها إن كان هدفنا الموضوعية والنزاهة.
في رأيي ومن خلال متابعتي أرى أن غالبية الإعلام العربي في فوضى عارمة بقدر تعلق الأمر بالاقتباس والإسناد.
وهذا لا يدهشني كمختص بتحليل الخطاب.
كما قلت الخطاب مؤشر مهم للواقع الاجتماعي.
وما نشاهده من فوضى في الاقتباس في بعض وسائل الإعلام - الذي يعد أساس الإعلام الرصين - ما هو إلا انعكاس لرجحان وسيادة الرأي الواحد والخشية من إيراد الرأي المعاكس لا سيما إذا تعارض مع ميول ومواقف من يدعمونها.
ولهذا أرى أن أغلب الاقتباسات في الإعلام تعارض الأسس الفكرية والفلسفية التي أتى بها علماء تحليل الخطاب.
مثلا لا نعلم في الغالب إن كان النص المقتبس مسـجلا على آلة تسـجيل أو مكتـوبا قبل بثه لا سيما في الإعلام المقروء. في غياب التسجيل الموثق تزداد إمكانية التلاعب بالنص الشفهي عند الاقتباس.
وفي غياب تسجيل موثق تتضاعف إمكانية التلاعب بالنص لا سيما عند تباعد الزمان والمكان وكثرة عدد المصادر التي تنقل عن المصدر ذاته.
وكلما زاد الاستناد إلى مصادر غير معرّفة، زادت إمكانية التلاعب بالنصوص وجرها إلى ميل الوسيلة الإعلامية.
وعلماء الخطاب يقولون إن هيمنة المصادر غير المعرّفة يزيد من إمكانية الغش والتلاعب بالنصوص المقتبسة لتلبية غايات مؤسساتية وأيديولوجية بحتة.
وكلما استندنا إلى أقوالنا ــــ أي نقحم مقدمات وكتابات إنشائية لا مصدر لها غير ميولنا وميول الداعمين التي يجب أن تكون متطابقة ــــ بعدنا عن النزاهة والموضوعية.
وعلم الخطاب يحذر من الاقتباس المباشر المعرف وغير المعرف الذي ينقل عن مصدرين أو أكثر في آن واحد. بمعنى آخر استنادنا إلى مصادر متعددة وهي تقول الشيء ذاته هو بمثابة خطيئة تديننا مهنيا لأننا نستخف بعقل المتلقي ونظهر كذلك حجم تحيزنا وتحزبنا.