إصلاح التعليم مرتبط بتحول التدريس إلى مهنة
في مقال الأسبوع الماضي طالبت بإعادة هيكلة كثير من الوزارات، لضرورة التحول الاقتصادي المبني أساسا على فصل كثير من الوظائف المرتبطة بمهن واضحة أو قطاع اقتصادي خاص واضح المعالم. ولعل أحد الأسباب التي تدفعني إلى الاستمرار في الكتابة في هذا الموضوع الشائك جدا "وقد أكون قاسيا جدا اليوم" هو أننا ـــ في الغالب ــــ غير مهنيين، فمعظمنا لا ينظر إلى ما يقوم به كمهنة، وهناك كثير ممن قابلتهم وتحدثت معهم لا يستطيعون تقديم تعريف واضح لما يقومون به من وظائف، وليس لديهم مرجعية مهنية، أو أنهم غير قادرين على تحديد مسارهم المهني بشكل دقيق. وقد بدأت هذه المشكلة مع تأسيس الاقتصاد السعودي، ففي تلك الفترة كان لا بد للحكومة أن تقوم ببناء الاقتصاد، ولهذا أخذت على عاتقها كثيرا من الخدمات والأعمال التي كان من المفترض أن يقوم بها القطاع الخاص، لكن لظروف الفترة ولظروف تدفق النفط فقد تحولت الحكومة إلى أكبر مستقطب للموظفين في الاقتصاد، وكل من يعمل في الحكومة ينظر إلى نفسه كموظف حكومي فقط بغض النظر تماما عن المهنة التي ينتمي إليها، ولهذا لا يستطيع أي موظف حكومي العمل مهنيا في السوق الاقتصادية التي يخدمها، ولا يستطيع تحويل معارفه التي اكتسبها في الحكومة إلى القطاع الخاص.
وباختصار فإنه لا يمكن لأي مهنة ولا للمهنيين فيها الشعور بأنفسهم وتصنيف بعضهم بعضا كمهنيين إلا إذا توافرت شروط عدة، أهمها وجود تعليم أساسي لهذه المهنة، فلا يمكن دخول المهنة دون الحصول عليه، ثم وجود معايير مرجعية للممارسات المهنية وقواعد للسلوك المهني، ثم اختبارات مهنية مؤهلة للحصول على ترخيص مهني صادر عن مرجعية مهنية مستقلة، ونظام صارم للتدريب والتعليم المستمر ونظام أشد صرامة للرقابة المهنية على جودة الممارسات. هناك كثير من الأمثلة على التشوه المهني، لكن أكثر وظيفة يتضح فيها هي وظيفة التدريس في التعليم العام.
قليل جدا، من المدرسين ينظرون إلى أنفسهم كمهنيين، فهناك ـــ كما أراه ـــ خلط واضح بين الحقل المعرفي الذي تعلمه المدرس في الجامعة وبين مهنة التدريس نفسها، فالجامعة تقدم معارف نظرية وعلوما متقدمة غير موجهة إلى مهنة بذاتها، خاصة في معارف مثل الأحياء والكيمياء والرياضيات واللغة الإنجليزية وغيرها من التخصصات التي تقدم المعارف النظرية البحتة غير المهنية. في المقابل فإن كليات التربية تهتم بمهنة التدريس بعيدا عن عمق التخصص النظري الذي يجب تقديمه للطلاب. وفي محاولة لإغلاق الفجوة، ظهر ما سمي بالدبلوم التربوي، لكن هذا الدبلوم التربوي ليس له تفسير مهني، فهو هجين بين الدراسات العليا في الجامعة التي تهتم بالبحث العملي وبين الشهادة المهنية التي تمنح الترخيص بدخول مهنة التدريس. وفي نظري أن الجامعات قد تورطت في هذا الدبلوم وورطت معها المجتمع، وما كان لها ذلك. فظهرت شروط للدخول في الدبلوم كأنها شروط جامعية للدراسات العليا والبحث العلمي، في الوقت الذي تعرف الجامعة ويعرف المجتمع أن هذا الدبلوم التربوي يمثل شهادة مهنية، من المفترض أن تتاح لكل من يريد دخول مهنة التدريس، وألا ينحصر على عشرات الأشخاص فقط. والأسوأ من كل هذا هو ارتباط المدرسين بمستوى ثابت لا يتغير منذ التحاقه بالتدريس حتى تقاعده ومهما تقادمت خبراته، لكنه يتغير فقط إذا حصل على شهادة ماجستير أو دكتوراه في تخصصه التعليمي وليس المهني، فما علاقة ترقية مهنية ترتبط بخبرات مهنية بشهادات متقدمة في البحث العلمي؟ لكنه التشويه المهني الذي نعانيه، وهذا انعكس بدوره على تشويه واسع في برامج الدراسات العليا التي كان يجب أن تنصب على البحث العلمي، فأصبحت مجرد شهادات ترقية للمدرسين. ولزيادة الطين بلة ــــ كما يقال ـــ ظهر لنا اختبار كفايات، الذي لم يتم تحديد مكانه على الخريطة، هل هو اختبار مهني أم قدرات، وما علاقته بالمهنة والدبلوم التربوي؟
ولا ألوم المدرسين ولا الجامعات في هذا الموضوع، فالمشكلة في هيكل الوزارة نفسها، التي بدأت كوزارة للمعارف، ثم كوزارة للتربية والتعليم، ثم هي الآن وزارة للتعليم. ومع كل هذه الرحلة الطويلة لا يوجد تحديد واضح لمهنة التدريس، ولا أين مكانها من الإعراب في هيكل المهن في المملكة، فلم يتم حتى الآن إنشاء مؤسسة مهنية مستقلة للمدرسين، تقدم اختبارات مهنية "بدلا من الدبلوم التربوي واختبار كفايات"، وتمنح تصريحا مهنيا، ولا يوجد سلم مهني يتضمن مسميات مهنية واضحة، يمكن من خلاله معرفة مستويات الخبرة والعمل والترقية المهنية والعوائد، فالجميع مدرسون هناك. كما انعكست هذه المشكلة على الممارسات، فلا توجد قواعد واضحة معلنة للممارسات المهنية المقبولة، وأصبح التوجيه التربوي عملا مزعجا وبلا تفسير له في الواقع العلمي، ولا لماذا يجب أن يقوم الموجه بهذه الزيارات الميدانية، ما التفسير المهني المرتبط بهذه الزيارات وبالتوجيه التربوي ككل. فلا يمكن للتوجيه التربوي أن يفعل شيئا طالما لا توجد مهنة، ولا يوجد في التدريس نظام لمراقبة جودة العمل المهني، وليس هناك تدريب وتعليم مستمر وساعات أدنى لذلك، يجب الحصول عليها ومراقبتها.
لتطوير التعليم في بلادنا فإنه من الضروري التحول إلى عمل مؤسسي مهني، فيتم فصل مهنة التدريس عن مؤسسة بناء معايير التعليم ومناهجه في المملكة، ولا يقوم المدرسون الممارسون بوضع هذه المعايير والمناهج، كما أرى أنه من المناسب منح التصريح المهني من قبل مؤسسة مستقلة معنية بإدارة الاختبارات المهنية، توفر الدورات الضرورية لخوض الاختبار لمن لا يرغب في دخول الاختبار مباشرة، كما يكون لهذه الهيئة المهنية مراقبة أداء المدرسين، فهي التي تمنح التصريح المهني، ولها أيضا إيقاف أي مدرس عن ممارسة المهنة، وتوقيع عقوبات مهنية عليه. وهذه المؤسسة المهنية تضع قواعد للسلوك المهني، وأيضا مستويات مهنية وآليات الترقي المهني ومتطلباته، كما أرى أنه من الضروري إنشاء مجلس للرقابة على جودة التدريس في المملكة، ومدى التزام الممارسين للعمل المهني الجيد، وهذا يتطلب نقلة موضوعية كبرى في عمل التوجيه التربوي الحالي.
ومن المهم جدا أن ترتبط إيرادات هذه الهيئة المهنية المستقلة للتدريس ومواردها المالية بسوق المهنة، فلا ترتبط بميزانية الدولة بأي شكل. ذلك أن نجاح هذه المهنة مرتبط بسوقها المهنية التي تسعى إلى تطويرها. سيكون دور وزارة التعليم في المملكة هو التوظيف المهني فقط كمستفيد من خدمات المدرسين مثلها مثل القطاع الخاص تماما.