ما أخطر ما يواجه العرب اليوم؟
اليوم نقرأ الكثير حول الوضع العربي الراهن. والراهن اليوم يصبح الماضي غدا. وكل ماض كان جزءا من الراهن في يومه.
ما إن تقرأ عن الوضع العربي "الراهن"، حتى تبادرك مفردات مثل: "أخطر" و"أسوأ" و"الأكثر خطرا" وغيرها من أسماء وصيغ التفضيل.
العرب ولغتهم الساحرة مولعون بالتفضيل. إن أحبوا شيئا أغدقوا عليه التسميات المحببة. وإن أبغضوا شيئا أسبغوا عليه صفات غير حميدة.
المدح والقدح والهجاء والتكريم قد وضع لها العرب وأعلامهم في النثر والشعر نماذج خطابية أكاد أجزم لا تضاهيها إبداعا وفنا أي لغة أخرى في الدنيا.
والعرب لا يسحرون الدنيا بخطابهم ولغتهم. لغتهم الجميلة تسحرهم وتفتنهم وتأخذ بألبابهم.
معجزة العرب لسانهم. "الكلمة" هي معجزة العرب. ومعجزة "الكلمة" هي وجودهم. دون "الكلمة" أو في غيابها، لن يبقى للعرب شيء.
سيخسر العرب تاريخهم وثقافتهم، لا بل أنفسهم إن أساءوا استخدام "الكلمة" أو همشوها ولم يمنحوها مكانتها السامية لا بل "المقدسة" لديهم.
والقرآن، وهو أغلى ما يملكه العرب المسلمون في دنياهم وآخرتهم، المعجزة الكبرى فيه هي "الكلمة" ـــ اللغة.
كانت اللغة العربية بشعرها وسجعها تقريبا كل ما يملكه العرب قبل مقدم الإسلام. كانت اللغة لهم الدنيا برمتها بفنونها وثقافتها وحضارتها. وكانوا يتصورون أن ما لديهم من لسان يكفيهم فخرا وسؤددا واعتزازا أمام الأمم الأخرى التي لا تملك مثله.
وكان الشاعر في ذلك الزمان هو لسان العرب. ما ينطقه هو السحر بعينه. كانت القبيلة تلتف حول الشاعر. الشاعر بالنسبة لها كان الرسي، العمود الثابت الذي بدونه لا تنتصب قامة، كما أن الخباء لا يمكن نصبه من دونه.
"الكلمة" كانت تقود العرب في الجاهلية. بيد أنها كانت "كلمة" تفرق ولا تجمع. كانت تثير النعرات القبلية والفئوية وتؤجج المشاعر وتهيج الناس لقتال بعضهم بعضا.
"الكلمة" في الجاهلية كانت رأيا واحدا ووجهة نظر واحدة على حساب الرأي ووجهة نظر الآخر.
وإن حدث أن زاغ فرد قيد أنملة في خطابه عن وجهة نظر قبيلته، طردته وصار منبوذا.
كان أفق العرب في الجاهلية محدودا بحدود القبيلة والبداوة. الخطاب والكلمات كانت تدور ضمن هذه الحدود.
وهذا استمر إلى مجيء الإسلام. القرآن ساعد العرب في الخروج من جاهليتهم. بدلا من الولاء للقبيلة صار الولاء للإسلام كأمة.
وبدلا من التنابز بالألقاب استنادا إلى ما هو متوافر في اللغة لإقصاء الآخر (القبيلة المناوئة)، جعل منهم أمة واحدة.
ومن ثم رأوا فيه معجزة لغوية لا طاقة لهم أبدا بمجاراتها أو الإتيان بمثلها. لقد وقفوا مبهورين ورأوا كيف أن الإعجاز اللغوي الجديد قهر كل ما لديهم وما كان حسب عيونهم إعجازا.
بعد نحو 15 قرنا، أرى أن العرب في خطر كبير. الخطر يكمن في "الكلمة" ــــ الخطاب المتداول إن في الإعلام أو غيره من وسائل التواصل.
الخطر ليس في الأحداث المؤلمة والدموية التي تعصف بأمصار العرب. الخطر في الخطاب والكلمة التي تؤجج المشاعر وتحفز الناس لفرز وتصنيف أنفسهم على أنهم من هذا اللون وليس ذاك كما كان العرب في الجاهلية يفعلون.
صار الخطاب العربي والكلمات التي ترد فيه يدور ويراوح في دائرة الفئوية والطائفية شأنه شأن الخطاب في العصر الجاهلي الذي كان ذا أفق ضيق ورأي واحد لا يتجاوز مدار القبيلة.
من السهولة بمكان فرز الخطاب الجاهلي ومعرفة الرأي ووجهة النظر التي يتبناها. ومن السهولة بمكان عدّ المفردات التي يستخدمها في إغداق المديح على قبيلته ووسم القبيلة المناوئة بشتى التوصيفات السلبية.
والله عندما أقرأ وأتابع الخطاب العربي اليوم ــــ الإعلامي وغيره ـــ أرى نفسي وكأنني أقرأ شعرا من الفترة الجاهلية.
كما كان الشعر في الجاهلية يفرز الناس من خلال توصيفات "كلمات" ينتقيها عمدا للذم والمديح، كذلك الخطاب في العربية اليوم الذي صار ساحة لمباراة لغوية يتبارى فيها الكتاب في مديح ميولهم وأصحاب نعمتهم وذم المختلف عنهم.
هذا هو أخطر ما يواجه العرب اليوم. إن لم يتداركوه بمنح المختلف مساحة للتعبير عن رأيه ومنح من لا صوت له مساحة لإسماع صوته، يكون العرب لم يغادروا جاهليتهم حتى الآن وكأن الإسلام لم يأت بعد.