مجتمعاتنا .. والحكمة الضالة
يزخر الأدب العربي بنفائس كثيرة تضمنتها الكتب والمجلدات التي أنجبتها العقول المبدعة التي جعلت من الملاحظة، والسبر لكل ما يحيط بالشاعر، والأديب في المجتمع البشري، أو في مجتمع الحيوان، والطيور في البيئة المادية أداة، ووسيلة لاكتشاف أسرار جميع العناصر، أو للتعبير من خلالها عما يجول في النفس من مشاعر، واتجاهات قد لا تسمح الظروف السياسية، والاجتماعية بالتعبير عنها بشكل مباشر، فعبد الله بن المقفع عبر عن واقعه بلغة الحيوانات، وما يوجد بينها من صراع، وتنافس، وإثبات وجود، حسب القدرات المتوافرة لها لضمان بقائها، واستمرار وجودها على الحياة، والجاحظ بدوره سمى أحد كتبه الحيوان، كل ذلك يعني أن الإنسان جعل مما يحيط به مادة يستخلص منها العبر، ويكتشف القوانين، خاصة الاجتماعية، والنفسية، والعلاقات المنظمة لحياة الناس، بشكل عام، أو علاقتهم بالحاكم.
النفس البشرية، ذات الأسرار العميقة، الغامضة، والمعقدة في كثير من الأحيان وجدت الاهتمام الكبير من قبل الأدباء، وبالأخص الشعراء، حتى أن بعض الشعراء جعل من النفس البشرية مادة لشعره يحاول سبرها، والتأمل في أسرارها وتقلباتها، بين الحزن والفرح، والكسل والحيوية، والجبن والشجاعة، والافتخار بالذات، والاعتداد بها، حتى ليشعر القارئ بطبيعة الشاعر صاحب القصيدة نفسها، أو البيت، كما في قول المتنبي عن نفسه وشعره الذي يفتخر به أيما افتخار.
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وما من شك أن دارسي الأدب، وطلابه انشغلوا بما قاله، أو كتبه السابقون تحليلا، ودراسة، بهدف معرفة المعنى المقصود، ومعرفة الظروف السياسية، والنفسية التي أحاطت بالشاعر، وجعلته يعبر بتلك الصورة، أو يختار ذلك اللفظ، ومراده منه، وما من شك أن البيتين السابقين يجسدان حالة نفسية تتجسد فيها الثقة المتناهية بالنفس الذي ربما يصل بصاحبه إلى حالة الغرور.
استوقفني قول الشاعر.
وما انتفاع أخ الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
هذا البيت يمثل نقدا لاذعا للفرد في أي زمان، ومكان وجد حين لا يستطيع التمييز بين الحقائق، والأكاذيب، وبين الحق، والباطل، إذ في هذه الحالة يكون مصيره الانتكاسة، وسوء النتائج، ولو عرضنا واقعنا المعاش أفرادا، وجماعات، ومجتمعا، ومؤسسات لاكتشفنا أن كثيرا من المشكلات على المستوى الفردي، سواء في صحته، أو علاقاته، أو وضعه الأسري، أو المعاشي مرده القصور في التمييز بين الأوضاع الضارة، والمفيدة، وبين الحلال، والحرام وبين المقبول والمنبوذ اجتماعيا، وكم من الأفراد دخل في دوامة هو بغنى عنها لو استخدم عقله وعرض أموره على محك الحكمة والصواب بدلا من المشاعر الطائشة.
على المستوى الاجتماعي، والسياسي ما نشهده من اضطرابات في مجتمعاتنا، ومنطقنا لا يمكن فصله عن سوء الإدراك، وعدم القدرة على التمييز بين الأمور فيما فيه مصلحة المجتمع، أو الحاكم الذي يرى في الاستبداد، والقتل، والتدمير وسيلة لقمع المجتمع، ومنعه عن المطالبة بحقوقه الإنسانية، والشرعية، وليس أدل على ذلك إلا ما يحدث في سورية، والعراق من قتل، وتدمير، وتهديد لهوية المجتمع، كل ذلك لافتقاد من يحكم تلك الأوطان بالحكمة، والرؤية الصائبة التي تمكن الفرد الحاكم من التمييز بين الغث، والسمين، والحق، والباطل، والصادق، والكاذب، والأمين، والخائن.
الواقع المرير الذي تعيشه المنطقة كان بالإمكان تفاديه لو وظفت الحكمة، وساد الاتزان، ومحصت الرؤية بعيدا عن طغيان، وهيمنة المصالح الفردية، أو غرور القوة الذي ينجم عن تضخم الذات المرضي الجشع، ما قيد من تسببوا في كوارث المنطقة لضيق الأفق وقصر النظر، وكم هو رائع قول الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحك الثاني.