الاقتصاد السعودي .. ومسار الخصخصة
عندما بدأت المملكة العربية السعودية مشوارها النهضوي على يد القائد المؤسس الملك عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ لم يكن هناك الكثير مما يعول عليه لبناء اقتصاد حديث، لقد كانت المملكة عند بداية ذلك المشوار تعاني تراجعا وصل إلى حد التخلف الحضاري في بنيتها الصناعية والزراعية والتجارية، كان هناك بعض النشاط في مواسم الحج لكن لم يكن بالنضج الكافي حتى يمكن الارتكاز إليه لبناء اقتصاد البلاد. ومنذ توحيد المملكة على يد المؤسس بدأت مرحلة التخطيط للاقتصاد الحديث، لكن هذا تطلب أن تتولى الحكومة بنفسها بناء المؤسسات الاقتصادية الرئيسة التي سيرتكز إليها العمل في المستقبل في تلك المرحلة، فكانت مؤسسات مثل خطوط السكك الحديدية والمطارات ومرافقها والطيران المدني والاتصالات والنقل والصحة والتعليم وحتى الأمن الخاص، كانت جميعا تخضع لإشراف حكومي كامل، وعلى الرغم من أن كثيرا من هذه الخدمات مجانية لكن حتى تلك الخدمات التي خصصت لها الدولة مقابلا كانت تعد رمزية وتخضع للقرار الحكومي. بالطبع لم تكن هناك منافسة في الأسواق في تلك الفترة لأمرين: الأول عدم قدرة المواطن السعودي على بناء مؤسسات اقتصادية تتحمل تبعات المنافسة، ولأن فتح باب الاستثمار الأجنبي للمنافسة في تلك الفترة كان يعني فشل المؤسسات السعودية الخاصة، لأنها حتما لم تكن قادرة على المنافسة في ظل غياب المعرفة والتكنولوجيا. كان كل شيء يسير صحيحا خاصة أن قدراتنا النفطية تغطي جميع الاحتياجات وتتفوق عليها بفوائض كبيرة، كان يمكن للنفط وحده أن يغطي فشل كثير من هذه المشروعات "اقتصاديا" على الرغم من نجاحها مؤسسيا، فشل يعود في الدرجة الأولى لعدم إدارة المؤسسات الاقتصادية بقاعدة التكلفة والمنفعة بل بفكرة تقديم الخدمات ولو بتكاليف عالية ليس عليها مقابل، كان على الدولة بحكم تحكمها في هذه الأنشطة الاقتصادية أن تكون الموظف الأول للطاقات البشرية في المملكة وأن تدفع في مقابل ذلك رواتب مغرية، وألا تأخذ ضرائب في مقابل هذا كله لأنه لا معنى لذلك. لكننا اليوم وبعد مضي قريبا من القرن على انطلاق مشروعنا الحضاري نواجه تحديات مختلفة، فلم تعد القضية اليوم هي قضية الأمس وبناء المؤسسات وإدارتها، لم تعد مشكلتنا هي توافر المعرفة الاقتصادية وإدارة الأعمال، لم يعد خوفنا على المنافسة في القطاع الخاص كما كانت عليه في البدايات، بل نحن اليوم نواجه تزايدا كبيرا في تعداد السكان وارتفاع الطلب المحلي، نحن نواجه تراجعا في الخدمات تحت ظل الإدارة المركزية وغياب المنافسة، نحن نواجه تراجعا في إيرادات النفط سيؤثر حتما في الدخل الحكومي، ومن ثم الخدمات التي تقدمها الحكومة والمزايا والرواتب التي يتطلبها العمل والإنتاج. وباختصار فإن النموذج الاقتصادي المرتكز إلى الحكومة الذي نجح في العقود الماضية لم يعد قادرا على دعمنا في المستقبل ولا بد من بعض الإصلاحات الضرورية الآن. فالتحول الاقتصادي أصبح ضرورة اليوم، ولا بد أن يشارك القطاع الخاص بقوة كبيرة في دفع العجلة الاقتصادية، وأن تكون قاعدة التكلفة والمنفعة حاضرة في الأعمال، ولهذا فإن تحرير كثير من القطاعات الاقتصادية التي هيمنت عليها الحكومة في العقود الماضية أصبح مطلبا للاستدامة والبقاء اليوم. وكما أشرنا فنحن اليوم أفضل بمراحل من واقعنا بالأمس، فلدينا مجموعة من الأنظمة في التجارة والأعمال وعلاقات العمال، وأصبحت لدينا مؤسسة قضائية، ولدينا وسائل دفع متنوعة، وسوق ائتمانية ترتكز إلى تريليونين من الاحتياطيات النقدية، لدينا سوق مالية متطورة، لدينا مؤسسات تعليمية ناضجة ومتقدمة في كل ركن من أركان المملكة، لدينا موانئ ومطارات وحركة عمالية هائلة، لدينا قاعدة شعبية ضخمة وقدرات شرائية كبيرة، لدينا أيضا ــ وهذا مهم ــ تجارب جيدة في التخصيص وتحرير السوق يمكن الارتكاز إليها ومنها تجربتنا في خصخصة قطاع الاتصالات في البدايات ثم فتح السوق للمنافسة. إذا نحن جاهزون فعلا لمرحلة جديدة، لكن نحتاج إلى تبصر وبصيرة، وإعادة هيكلية قبل الخصخصة، ولعل هذه المرحلة بالذات تقودها هيئة الطيران المدني حيث ستبدأ قريبا خصخصة المطارات، لكن نحتاج إلى تسريع عملية تحرير السوق، فلم تزل هذه العملية في الطيران المدني تواجه صعوبات وعقبات كبيرة. النجاح في تجربة الطيران المدني وتحرير السوق سيكون نقطة انطلاق أساسية لعصر الخصخصة وما بعد النفط.