الإعلام والتعاطف مع ضحايا الإرهاب
قليلة هي الأصوات التي تجرأت على وضع ضحايا الإرهاب في باريس ضمن سياقها. والسياق هو قرينة وبيئة ومحيط الحدث، والسياق لا نصل إليه إن لم نضع المقارنة والمقاربة أمام أعيننا.
المعلومة التي ننقلها أو نقدمها للمتلقي تفقد الكثير من النزاهة والموضوعية والعدالة والمصداقية إن أصبحت خارج سياقها. والحدث أو الخطاب الإعلامي الذي نستخدمه كوسيلة للتعبير عنه يتحول إلى ما يشبه "حكاية جدتي" خارج سياقه.
قد يقول البعض إن النزاهة في الإعلام صعبة المنال إن لم تكن مستحيلة. هذا صحيح طالما وضعنا ما لدينا في مرتبة أسمى مما لدى الآخر. وما لدي يشمل أمورا عديدة تبدأ باللون والجنس والدين والمذهب والميول وأسلوب الحياة وغيرها كثير.
إذا غاب السياق عن الخطاب الذي استخدمه، هذا معناه أنني أؤمن وأتصرف على أساس أن ما لدي أفضل مما لديك.
ومعناه أيضا أنك لن تتمتع بخطاب حميد وحسن يؤشر إلى تعاطف تام بغض النظر عن كل الميول المختلفة إن لم ترتق إلى المصاف الذي أنا فيه. بمعنى آخر أن تكون "أنا" وهذا مستحيل لأنني لن أقبل أن تكون "أنا".
ليس هناك طريق كي تصبح مثلي وتتمتع بحقوقي لأنني "أنا" لا أسمح بذلك. أن تصبح "أنا" معناه أنني أفقد كل الامتيازات والحقوق التي كدستها لنفسي وأغلبها على حسابك، فكيف لي أن اقبل أن تكون "أنا".
ولأنك لست "أنا" ولأنني أسمى منك فعليك أن تتعاطف معي في خطابك في الإعلام وغيره. سُمُوي عليك يمنحني الحق ألا أتعاطف معك في محنتك.
ومن ثم بأي حق تطلب مني "أنا" الذي أسمى منك أن أتعاطف معك إن كنت أنت أساسا لا تتعاطف مع نفسك وما يحل بك من كوارث؟
كانت هذه مقدمة نظرية للموضوع. أتفق مع القارئ اللبيب إن رآها عسيرة الهضم. نحن الأكاديميين نحاول الاختفاء وراء الرطانة بدلا من الإفصاح مباشرة عن أفكارنا لاسيما في مسائل خلافية وحساسة كالتي نحن في صددها.
التعاطف الخطابي، والخطاب يشمل اللغة وأي رموز أخرى نستخدمها للتواصل مع الآخرين، مع الضحايا الأبرياء للإرهاب الذي ضرب باريس، أقل ما يمكن للمرء القيام به. قتل الناس الأبرياء عمل غير إنساني وجرم شنيع لا يقبله الشرع ولا البعد الإنساني لكوننا بشرا.
هذا التعاطف مع الضحايا لا يجوز أن يتحول إلى مسألة خلافية. إنه واجب أخلاقي وإنساني وديني لاسيما للذين يقولون إن نصوصهم مقدسة وأتتهم من السماء.
ولكن هل يحق لنا أن نضع هذا "التعاطف" ضمن سياقه؟ ليس هناك نزاهة وعدالة إنسانية دون السياق الإنساني السليم في الخطاب (اللغة) والفعل.
إن أمر حاكم بإعدام ولدي وإطلاق سبيل ابن شخص غريب لجرم مشابه تماما، فلابد أن يكون هناك ظلم في الأمر لأن السياق واحد والعدالة مختلفة.
العدالة تتطلب من الحاكم أن يصدر حكما واحدا طالما السياق واحد.
وسيزداد الأمر سوءا لو أن الحاكم أمر بإعدام الاثنين. وستكون البلية أعظم إن أنا بدلا من البكاء والنحيب على ولدي والعمل الجدي على ألا أخسر ولدا آخر، أهرع لمواساة الشخص الغريب وأنحب معه وأذرف الدموع لولده. وستكون العاقبة كارثة لي إن عملت كل شيء من أجل الشخص الغريب كيلا يتكرر ما حدث له، ولم أكترث لنفسي وعائلتي وبيتي كي أحصنه من مأساة قادمة.
وستكون المقاربة أوضح وأكثر جلاء إن قام الشخص الغريب وبمساعدتي بالعمل الجدي لتحصين بيته وأنا لا أحرك ساكنا لحماية نفسي وبيتي.
آمل أن الأمثلة التي قدمتها قد سلطت بعض الضوء على الفرضية في بداية المقال. وإن مضينا قدما في مقاربة السياق قد نصل إلى هذه النتيجة.
لقد هب الفرنسيون ومعهم كل الغرب في التعاطف مع الضحايا الأبرياء، وهذا حق. ليس هذا فقط، إنهم سيغيرون حتى في دستورهم وعلاقاتهم وسياستهم وربما أسلوب حياتهم كي يمنعوا أن تقع بهم كارثة بهذا المستوى مرة أخرى. وفي هذا يساندهم الغرب برمته في الخطاب الإعلامي وغيره.
لقد هب العرب أيضا في الخطاب وغيره لمساندة فرنسا والتعاطف معها في محنتها. وأظن أن البعض ذهب بعيدا في تعاطفه.
ألم يكن من الأجدر للعرب أولا أن يتعاطفوا مع ضحاياهم ويعملوا ما بوسعهم، كما تفعل فرنسا، كي يضعوا حدا لسقوط ليس مئات وآلاف بل عشرات ومئات الآلاف من الضحايا الأبرياء في صفوفهم.
كم هجوما إرهابيا يتعرض له العرب في الشرق الأوسط؟ هل يمر أسبوع دون وقوع هجوم إرهابي أو أكثر مماثل لما حدث في فرنسا؟ والضحايا، عكس الضحايا الفرنسيين، لا عنوان لهم ولا اسم لهم ولا ذكر لهم، كأنهم هباء منثور.
الهجوم الإرهابي في باريس جعل فرنسا تغيِّر في نفسها ولن تكون ما كانت.
كم هجوما إرهابيا آخر وكم من الضحايا نحتاج كي يغيِّر العرب ما بأنفسهم ويشرعوا بالتعاطف مع ضحاياهم أولا كما تفعل فرنسا قبل التعاطف مع ضحايا الآخرين وقبل أن يطلبوا من الآخرين التعاطف مع ضحاياهم؟
إذا بأي حق تطلب مني "أنا" الذي أسمى منك أن أتعاطف معك إن كنت أنت أساسا لا تتعاطف مع نفسك وما يحل بك من كوارث؟