حوكمة الجمعيات الخيرية .. حل مشكلة الثقة
تطور العمل الخيري في المملكة خلال العقد الماضي نوعيا وكميا، فهناك اليوم أكثر من ألفي جمعية خيرية ومؤسسة غير ربحية من بينها أكثر من 80 جمعية نسائية، وتجاوز عدد أعضاء تلك الجمعيات 153 ألف عضو، وعدد العاملين فيها قريب من 16 ألف عامل، في حين يصل عدد أعضاء المجالس الإدارية لأكثر من خمسة آلاف عضو، بلغت مصروفات عدد من هذه الجمعيات أكثر من 753 مليون ريال. وهكذا فإن العمل الخيري بذاته يعد مؤسسة ضخمة جدا، ومع ذلك فإن تنظيم هذا العمل الضخم لا يزال دون الكثير من الطموحات رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الشؤون الاجتماعية. ذلك أن المسألة ليست تتعلق بإنشاء الجمعية والترخيص لها بل بكيف تُدار أصول الجمعية وكيف تحقق أهدافها وحجم الرقابة المجتمعية على هذه الجهات. العمل الخيري مهم جدا وهو قطاع في غاية الأهمية لكل مجتمعات الدنيا، لكن من المهم أن يخضع بذاته لرقابة ذاتية تمكنه من العمل كما يجب.
وفقا لنظرية المنشأة التي ناقشتها أدبيات إدارة الأعمال بغزارة، فإن هناك مجموعة من العقود داخل كل منشأة، بغض النظر عن طبيعتها وعن حجم ونوعية أعمالها، ومن أهم العقود هي تلك العقود بين من يدير هذه المنشأة وبين من يملك أصولها أو من يقدم لها المال، في القطاع الخاص هو عقد بين الإدارة وبين المُلاك، وفي القطاع الخيري هو عقد بين من قدم الأموال وتبرع بها وبين من يدير هذه الأموال. تنشأ عن هذه العقود مشكلة تسمى مشكلة الوكالة، فالعقد هو عقد لإدارة هذه الأموال نيابة عن ملاكها، ولهذا يجب على الإدارة في أي منشأة أن توظف هذه الأموال بحسب الأهداف التي وضعها المُلاك أو من يقدم الدعم في حالة الجمعيات الخيرية، لكن كيف يثبت المدير أنه يقوم بذلك فعلا. هذه هي مشكلة الوكالة، فكيف نضمن أن المدير يقوم فعلا بما يجب عليه، بمعنى أنه لا يوظف هذه الأموال لمصالحه الشخصية أو لأهداف غير ما تم الاتفاق عليها. لمعالجة هذه المشكلة وكل ما ينتج عنها من مشكلات فرعية عديدة ظهر فكر الحوكمة، فالحوكمة هي في خلاصتها آليات تضمن أن أصول وأموال المنشأة تُدار بحسبما يقرره المُلاك أو مقدمة المنح المالية. ولعل هذا ما ينقص العمل الخيري في المملكة اليوم، فمشكلة الوكالة ظاهرة بشكل جلي، فنحن لا نعرف ولا يوجد لدينا ما يثبت أن الأموال التي تقدم من مقدمي الدعم يتم توظيفها فعليا في الأهداف المقررة والمحددة سلفا لهذه الجمعيات. ما زالت آليات الحوكمة ضعيفة، بل غير موجودة على وجه الحقيقة، فلا توجد هناك قواعد أو آليات معلنة وهناك من يقوم بفرض هذه الآليات ويتابع مدى الالتزام بها.
في هذا الإطار فإنه من المناسب جدا أن وزارة الشؤون الاجتماعية تعمل اليوم على إحداث نقلة نوعية في العمل الخيري والمؤسسات القائمة عليه، هذه النقلة، التي نشرت "الاقتصادية" تفاصيلها، تمر بثلاثة مسارات، الأول يتعلق بتصنيف وتقييم الجمعيات الخيرية، والثاني بتعزيز الحوكمة والشفافية والمساءلة، فيما يتمثل الثالث في مراقبة برامج ومنتجات تلك الجمعيات ونتائج تلك البرامج عبر نظام تصنيفي متطور. بالتأكيد إن هذا سيرفع من مستوى التحدي أمام الجمعيات الخيرية، لكنه في المقابل سيعزز الثقة بهذا القطاع المهم جدا حيث ستحل مشكلة الوكالة مع تطوير آليات الحوكمة، ومن ثم تطوير آليات رقابية، وتضمن تمثيلا واسعا في مناطق صُنع القرار في المؤسسات غير الهادفة للربح؛ ما يعزز من فرص توظيف الأصول بما يخدم أهداف المنشأة وليس خدمة أطراف محددة أو أجندة مختلفة.