يغطي فشله السياسي باتفاقية اقتصادية

حينما بدأ الرئيس الأمريكي باراك أوباما فترته الرئاسية الثانية، التي ستنتهي قريبا غير مأسوف عليها، وضع في سلم أولوياته إنجاز اتفاقيتين كوسيلة لتغطية فشله الذريع في ملفات الأزمات الخارجية الملتهبة.
الأولوية الأولى انصبت على إنجاز صفقة مع طهران حول ملف الأخيرة النووي المثير للجدل. أما الأولوية الثانية فكانت لإنجاز ما يسمى بـ"اتفاقية التبادل التجاري الحر عبر المحيط الهادي"، وهي اتفاقية استهدف مقترحها الأصلي في عام 2000 تخفيض التعرفة الجمركية، وتأسيس إطار مشترك للحماية الفكرية، وتطبيق ضوابط قانونية خاصة بالعمالة والبيئة، وإنشاء آلية لتسوية المنازعات ذات الصلة بالاستثمارات، قبل أن تنحصر الأهداف في عام 2011 في تعزيز التجارة والاستثمارات بين الدول الراغبة في الانضمام، وتشجيع الإبداع، وتحقيق التنمية المستدامة.
في الأولى قام المفاوضون الأمريكيون بجولات ماراثونية من المحادثات مع الأطراف المعنية بهدف تحقيق اختراق بأي شكل من الأشكال مع نظام يرعى الإرهاب باعتراف الإدارة الأوبامية نفسها، ولا يعترف أصلا بالمواثيق الدولية ومبادئ الأمن والسلام، ويصر إصرارا شديدا على امتلاك أسلحة الدمار الشامل لتأكيد سطوته وإرهابه في محيطه الإقليمي وخارجه. وكانت النتيجة، كما هو معروف، الخروج باتفاقية هزيلة مليئة بالثغرات التي بإمكان طهران أن تستغلها متى ما شاءت للتملص ما وقعت عليه، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة من قبل جهات عديدة، ما عدا واشنطن التي اعتبرتها نصرا أسطوريا لرئيسها.
لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للاتفاقية الثانية، إلا فيما يتعلق بطبيعتها. فهذه الاتفاقية التي تم إنجازها في الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري في مدينة أتلانتا الأمريكية بين الولايات المتحدة و11 دولة من الدول المطلة على المحيط الهادي (كندا، المكسيك، تشيلي، بيرو، أستراليا، نيوزيلندا، اليابان، ماليزيا، سنغافورة، بروناي، وفيتنام) ظلت تراوح مكانها منذ اقتراحها في عام 2000، وتطلبت جولات ماراثونية من المفاوضات العسيرة منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن دون نجاح يذكر، إلى أن قرر أوباما أن يركز جهوده عليها للخروج بأي نتيجة كيفما كانت، علّ ذلك يشفع له بحسنة قبل أن ينساه التاريخ ويضعه على الرف.
وكما في صفقة ملف إيران النووي، فإن اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي لها مثالب وفيها أوجه نقص قد تؤدي إلى تعثر تطبيقها بالشكل المأمول، على الرغم من تطبيل إدارة أوباما وحزبه الديمقراطي لها في وسائل الإعلام، والقول بأنها نموذج يمكن أن يـستخدم لإنجاز اتفاقية مماثلة عبر المحيط الأطلسي مع دول الاتحاد الأوروبي، وأن فيها من البنود ما يخدم مصلحة الأمة الأمريكية.
والشق الأخير صحيح. فالاتفاقية تخدم بالفعل مصلحة الكثير من المصدرين والمصنعين والمزارعين الأمريكيين الكبار بصفة عامة، لكن على حساب نظرائهم في الدول الأخرى الموقعة على الاتفاقية الذين لن يتمتعوا حتما بالقدر نفسه من المزايا والمكاسب. ولعل هذا المثلب هو الذي جعل ثالثة اقتصاديات العالم، أي اليابان تقف طويلا ضد إبرام الاتفاقية بسبب تباين وجهة نظرها مع وجهة النظر الأمريكية حيال الحماية الجمركية لمربي البقر وبائعي لحومها. كذلك فعلت أستراليا التي أصرت طويلا على أن تكون الحماية الفكرية لمصنعي الأدوية لمدة 5 سنوات في مقابل الإصرار الأمريكي على جعلها 12 سنة، علما بأن هذه الحماية تدر أرباحا تقدر ببلايين الدولارات على الشركات الأمريكية المصنعة للدواء، وبالتالي فكلما طالت مدة الحماية زادت أرباح الأمريكيين وتكبد الآخرون مبالغ طائلة على العلاج والاستشفاء.
غير أن هناك من يجادل أيضا في مبدأ أن الاتفاقية تخدم مصلحة كل الأمريكيين. أحد هؤلاء هو المحلل الاقتصادي الأمريكي الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2008 بول كروغمان الذي هاجم الاتفاقية بحدة ووصفها بالعمل المشوه ذي التأثيرات السلبية على العمال والمنتجين الأمريكيين في قطاع صناعة السلع الإلكترونية الذين سيواجهون حتما منافسة قوية في السوق من قبل السلع الإلكترونية يابانية المنشأ، وفي قطاع إنتاج الألبان ومشتقاتها الذين ستتهدد مصلحتهم بانفتاح السوق الأمريكية أمام المنتجات الأسترالية والنيوزيلندية. ومن بين هؤلاء أيضا السيناتور الجمهوري الأمريكي "أورين هاتش" الذي أكد أن استعجال الإدارة الأوبامية لإتمام المفاوضات أدى إلى التوصل إلى نتائج دون المستوى لجهة ضمان حماية كافية للمصلحة الأمريكية.
أحد المآخذ الأخرى على الاتفاقية، والناجمة عن تلهف أوباما على إنجازها قبل أن تنتهي ولايته، هو عدم بذل واشنطن ما يكفي من جهد لإقناع كل من الصين (صاحبة ثاني اقتصاد في العالم)، وكوريا الجنوبية (العملاق الصاعد بقوة في مجالي التصنيع والتصدير) بالانضمام إلى الاتفاقية. فغياب هذين القطبين الصناعيين والتجاريين الكبيرين المطلين على المحيط الهادي عن التوقيع على الاتفاقية يعني أنهما في حل من الالتزام ببنودها، وبالتالي يمكنهما الوقوف عقبة أمام تطبيقها كما هو مأمول، خصوصا إذا ما علمنا أن الصين بادرت بعقد اتفاقيات تجارية واقتصادية ثنائية خاصة بها مع عديد من الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي.
جملة القول، إن أوباما تسبب بهذه الاتفاقية، كما في اتفاقيته مع إيران حول برنامجها النووي، في بروز انتقادات حادة حول أدائه. وهذه الانتقادات سوف تشعل بلا شك وتيرة التنافس بصورة أكبر بين المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين في السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، بل إن المرشحة الرئاسية عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، التي خدمت كوزيرة للخارجية في الفترة الرئاسية الأولى لأوباما، أعلنت صراحة معارضتها للاتفاقية، مشيرة إلى مثلب جديد من مثالبها وهو عدم معالجتها بدرجة كافية المخاوف المتعلقة بالتلاعب بالعملات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي