صينيون في إفريقيا وإفريقيون في الصين
يخطئ من يعتقد أن الوجود الصيني في إفريقيا ظاهرة حديثة بدأت في العهد الماوي حينما أرادت بكين منافسة موسكو لجهة التمدد في القارة السوداء وزرع الماركسية الماوية فيها، أو بدأت قبل سنوات قليلة عبر المشاريع الاقتصادية بهدف إيجاد موقع قدم لها في القارة لمناكفة الأمريكيين والأوروبيين ومنافستهم تجاريا. فالحقيقة غير ذلك تماما، وتؤكدها الدراسات والأبحاث التاريخية والأركيولوجية التي أجراها أكاديميون من إفريقيا والصين وأوروبا، وتوجت بمؤتمر عقد في أكتوبر الماضي في أديس أبابا بتنظيم من جامعة أكسوم الإثيوبية. حيث تبين أن وصول الصينيين إلى السواحل الإفريقية سبق وصول المستكشف البرتغالي المعروف فاكسو دي جاما إليها في عام 1498 وهو في طريقه إلى آسيا، وأن الدبلوماسي والملاح الصيني "زينج هي" من عهد سلالة مينج الإمبراطورية حل في "ماليندي" على الساحل الكيني في عام 1418 على رأس 62 سفينة كانت تحمل نحو 37 ألف جندي، وبعض الهدايا إلى سلطان ماليندي الذي كان وقتذاك أحد سلاطين شرق إفريقيا المتنفذين.
والمعروف أن العلاقات الصينية ـــ الإفريقية شهدت في السنوات الأخيرة نموا كبيرا في مجالات التبادل التجاري وقيام بكين بتطوير البنى التحتية الإفريقية المهترئة، وتقديم القروض والهبات إلى عدد من الدول الإفريقية الأقل نموا، ما عزز من مكانتها ونفوذها في القارة بصفة عامة، إلى حد أن دولة مثل زيمبابوي راحت تستخدم اليوان الصيني في معاملاتها بدلا من دولارها المنهار. لكن بالتزامن مع هذا برز على السطح الكثير من المخاوف لدى الأفارقة من تنامي نفوذ بكين في بلدانهم، بل عده البعض نوعا من أنواع الاستعمار الجديد، خصوصا مع تدخل بكين في الشؤون الداخلية لبعض الدول الإفريقية التي توجد شركاتها واستثماراتها فيها بقوة، ناهيك عن عدم التزام الشركات الصينية بمعايير المحافظة على البيئة في إفريقيا. ولعل خوف بكين من إثارة الجزئية الأخيرة، وبالتالي إدانتها، جعلها تغيب تماما عن المشاركة في المؤتمر الدولي الثالث للتمويل والتنمية الذي عقد في أديس أبابا في يوليو الماضي.
لكن ماذا عن الوجود الإفريقي في الصين؟
يعود تاريخ وجود الأفارقة في الصين إلى الحقبة التالية لنجاح الثورة الماوية في عام 1949، حينما بدأت الحكومة الصينية، كغيرها من الحكومات الشيوعية في روسيا وأوروبا الشرقية، بتقديم منح دراسية للطلبة الأفارقة بهدف إعدادهم أيديولوجيا من أجل خدمة أغراضها في الدول الإفريقية المستقلة حديثا. وهكذا توافد عدد قليل من الأفارقة على الصين، سرعان ما تزايد في أوائل الستينيات بصورة خلقت احتجاجات عنصرية ضدهم في أوساط المجتمع الصيني، خصوصا مع تقديم بكين تسهيلات وامتيازات لهم على حساب الطالب الصيني في جامعتي بكين وشنغهاي. وقد تحولت تلك الاحتجاجات العنصرية إلى مصادمات في عام 1979 حينما اشتبك طلبة صينيون مع طلبة أفارقة في شنغهاي، الأمر الذي اضطرت السلطات معه إلى ترحيل بعضهم قسرا، فيما عاد آخرون طوعا. وتكررت المصادمات مرة أخرى في عام 1988 على خلفية تذمر طلبة صينيين من علاقة بعض الأفارقة بطالبات صينيات في جامعة هوهاي. لكن على الرغم مما حدث لوحظ تزايد عدد الأفارقة، ولا سيما الأمريكيين من أصل إفريقي، في الصين منذ عام 1990، بدليل أنه في عام 2014 قــدر عدد الأفارقة والأمريكيين السود ومواطني دول الكاريبي في الصين بنصف مليون نسمة. ومعظم هؤلاء يعيشون منذ أواخر التسعينيات في ميناء جوانزو المزدهر البالغ تعداد سكانه 11 مليون نسمة، وقد وصلوه لأغراض شراء البضائع الصينية الرخيصة من أجل تسويقها في بلدانهم وجني الأرباح المعتبرة.
ويقول أحد المحللين إنه بات من المؤكد أن عددا ضخما من الأفارقة السود يعيشون في الصين، لكن لا أحد يمكنه تقديم رقم دقيق لهم لأسباب كثيرة منها أن بكين حساسة وحذرة حول تقديم معلومات دقيقة عن أوضاعها الداخلية للعالم الخارجي، ناهيك عن أن إحصائيات النفوس فيها معقدة وتعيقها بيروقراطيتها المنيعة، فضلا عن تدخل أكثر من جهة رسمية في العملية الإحصائية. لذا فإن كل ما صدر عن بكين كان تقريرا في عام 2011 يفيد بأن أعداد الأجانب فيها يفوق 600 ألف نسمة، دون تحديد جنسياتهم أو أماكن وجودهم.
لكن باحثا صينيا من جامعة "صن يات سين" أشار في عام 2008 إلى أن عدد الأفارقة السود في بلاده يفوق 20 ألف نسمة، معتمدا في هذه المعلومة على سجلات الفنادق وبيانات حصل عليها من السلطات المسؤولة عن دخول الأجانب وخروجهم. كما أشار الباحث إلى أن أحوال هؤلاء الأفارقة تراوح بين أشخاص مر على وجودهم في جوانزو أكثر من عقد، وأشخاص يعيشون فيها بتأشيرة دخول تخول لهم البقاء من ستة أشهر إلى سنة، وآخرين تمكنوا من الحصول على إقامة تتجدد كل ثلاثة أو خمسة أعوام. وطبقا للباحث فإن الأغلبية العظمى من أفارقة الصين هم إما أنهم دخلوا البلاد بجوازات سفر غربية وإما أنهم في حالة ترانزيت تتيح لهم البقاء لعدة أسابيع. وما لاحظه الباحث أيضا أن عدد الأفارقة الذين يأتون إلى الصين يتزايدون بمعدل 30 ـــ 40 في المائة سنويا.
على أن ما سبق قد لا يعطي صورة دقيقة عن الوضع لأن الأفارقة يتنقلون من مدينة صينية إلى أخرى، وقد ينتشرون بعد دخولهم البلاد في أقاليم نائية خوفا من إبعادهم.
وفيما يتعلق بالأمريكيين السود في الصين الذين أتينا على ذكرهم عرضا في الأسطر السابقة، فإن العدد الأكبر منهم وصل إلى الصين خلال الحرب العالمية الثانية، وكان معظمهم من الجنود الذين انغمسوا في الأعمال اليدوية وتشغيل الآلات الثقيلة، مع عدد قليل من الأطباء والممرضين. ومنهم مع عمل جنبا إلى جنب مع الصينيين والهنود والبورميين في مشروع إعادة تشغيل خط ليدو البالغ طوله 271 ميلا لربط الهند بالصين عبر جبال الهيمالايا. هذا المشروع الذي وصف بالمعجزة الهندسية زمن الحرب، والذي قيل إنه خلق علاقات طيبة ما بين الصينيين والأمريكيين السود. لكن الأخيرين بات يـنظر إليهم اليوم نظرة عنصرية من قبل الصينيين اعتقادا منهم أنهم من مواطني إفريقيا السوداء الذين يتحسسون ويتخوفون من التعامل معهم إجمالا.