السر الهولندي «1» .. التعقيم دون معقم

عند الحديث عن هولندا، يخطر على البال أشياء عدة، كالمنتخب الهولندي الممتع بأسلوب الكرة الشاملة، وهناك أيضا اللون البرتقالي الطاغي على كل شيء في هولندا، وهو اللون "الشعبي" للبلد على الرغم من أن العلم الهولندي يحوي الأزرق والأحمر والأبيض فقط. أما سبب اختياره لونا للبلد فيرجع في الأغلب إلى ويليام أوف أورانج أو ويليام الصامت وهو الذي قاد حملة الاستقلال والتحرر من الحكم الإسباني، حيث كان علم التحرر يحوي اللون البرتقالي.
في حين أن هناك أشياء يعرفها القلة فقط عن ذلك البلد الصغير الواقع في شمال غرب القارة العجوز، كالتأثير العالمي الواسع للهولنديين عبر التاريخ. فمظاهر التأثير الهولندي واضحة في أصقاع العالم من إندونيسيا ـــ المستعمرة الهولندية السابقة ـــ إلى جنوب إفريقيا، حيث يتحدر أغلب البيض هناك، وحيث لا تزال لغة "الأفريكان" المتحدرة من الهولندية ـــ التي كانت تسمى الهولندية الإفريقية في بداياتها ـــ لغة رسمية. ومن نيويورك ـــ المدينة الهولندية السابقة ـــ إلى سورينام في أمريكا الجنوبية، حيث تحصل الهولنديون عليها مقابل التخلي عن نيويورك للبريطانيين في مقايضة تعد من الأغرب في التاريخ! ومنها ـــ أي سورينام ـــ يتحدر مشاهير الكرة الهولندية أصحاب البشرة السمراء كريكارد ـــ مدرب المنتخب السعودي السابق ـــ وخوليت وسيدورف. أي أن الهولنديين وجدوا في القارات الخمس. وفي حين خفت الوجود الهولندي باختفاء اللون البرتقالي من علم جنوب إفريقيا في عام 1994 إلا أنه لا يزال موجودا في علم نيويورك للدلالة على مؤسسيها وفي العلم الإيرلندي كعرفان لمساعدة الملكية الهولندية للإيرلنديين البروتستانت.
لكن الهولنديين يشعرون بالفخر لتفوقهم في مجال آخر وهو مجال المياه. ولهذا قصص كثيرة سنبدأها في هذا المقال بالحديث عن التفوق الهولندي في مجال معالجة وتعقيم مياه الشرب ثم نتبعها في مقالين مقبلين بالحديث عن سدود هولندا الدفاعية في وجه مياه البحر.
على العكس من جميع دول العالم ـــ تقريبا ـــ لا تستخدم هولندا الكلور في عملية تنقية وتعقيم المياه. فأغلب دول العالم تضيف الكلور إلى مياه الشرب كمعقم أساسي لكن الهولنديين يرون أن عدم استخدامه أنفع من الاعتماد عليه ولم يعودوا يستخدمونه أبدا. كان هذا الأمر سرا بالنسبة لكثير من الدول وأشبه بالأمر المستحيل، فالتعقيم بالكلور هو من المسلمات في علم هندسة المياه، إلا أن الهولنديين استطاعوا التخلي عنه عبر خطوات رئيسة يمكن تلخيصها كالتالي "كما وردت في بحث علمي للدكتور بي. سمييتس في عنوان هذا المقال نفسه":
1 - حسن اختيار وإدارة مصدر الماء المناسب.
تستخدم هولندا مصدرين رئيسين للمياه: المياه الجوفية (نحو 60 في المائة) والمياه السطحية (40 في المائة) ـــ السعودية بالمقارنة تعتمد على المياه الجوفية بنسبة تقارب 86 في المائة والباقي يأتي عبر تحلية مياه البحر ومياه الأودية. عند استخدام المياه الجوفية في هولندا وهي المفضلة، يتم إغلاق الأرض المستخدمة ولا يسمح بدخول البشر أو حتى الحيوانات للتقليل من احتمالية تلوث المياه الجوفية. ومع ازدياد الطلب على المياه، اتجهت المناطق الغربية في هولندا (كالعاصمة السياسية أمستردام والعاصمة الاقتصادية دن هاخ أو كما تسمى بالإنجليزية ذا هييج وهي المعروفة عربيا بـ لاهاي) إلى الاستعانة بمياه الأنهار. ولكن لأنها سهلة التعرض للتلوث ـــ صناعيا وبشريا، حيث تمر هذه الأنهار في دول أوروبية عدة قبل وصولها إلى هولندا ـــ وبدلا من استخدام وسائل مكلفة أو مواد كيماوية كثيرة، قام الهولنديون بحل بسيط وذكي. فقد قاموا بضخ مياه الأنهار في الأرض واستخراجها بعد حين Artificial Recharge ـــ في هذه الحالة تقوم طبقات الأرض بالعمل على تنقية الماء من الملوثات. وفي الحالات النادرة التي تستخدم فيها مياه الأنهار مباشرة، يتم سحب الماء من الضفة وليس بشكل مباشر (لاستخدام التربة كفلتر) وهي الطريقة المسماة Bank Filtration.
2 - الاعتماد على وسائل تنقية فيزيائية والابتعاد عن الإضافات الكيماوية قدر الإمكان في محطات التحلية.
كانت هولندا تستخدم الكلور كأغلب دول العالم حتى اكتشف الكيماوي الهولندي يوب رووك J. J. Rook في عام 1974 خطر إضافة معقمات الكلور خصوصا عند وجود مواد عضوية "حيث يتم تكون مواد تي إتش إم المسرطنة THM" ــــ لنا عودة للحديث عن هذا الموضوع بالتفصيل. تم حينها وتدريجيا التخلص من الكلور ــــ والكثير من المواد الكيماوية ـــ وتشجيع الطرق الفيزيائية كالتنقية بالرمال والترسيب وفلاتر الكربون والأشعة فوق البنفسجية. وفي عام 2005، تم التخلص من آخر محطة كلور في هولندا.
3 - منع دخول وتكاثر البكتيريا في شبكة المياه
أما في شبكات المياه ـــ حيث الاستخدام الرئيس للكلور في العالم ـــ فقد تخلص الهولنديون من الكلور عبر حلول شاملة ومبتكرة. فأولا تصمم الشبكات بضغط متواصل حتى يمنع دخول الملوثات من الخارج، وثانيا يتم منع تكاثر البكتيريا عبر "تجويعها"، وذلك بإنتاج ماء خال من المواد العضوية، التي هي وقود البكتيريا. فحتى لو تمكنت البكتيريا من الدخول فلن تتكاثر إلى العدد الذي تصبح معه ضارة للبشر.
لم يكن قرار الهولنديين بالتخلي عن الكلور ـــ وأغلبية المواد الكيماوية ـــ في تنقية المياه اعتباطيا ولا مرتجلا. بل كان قرارا مدروسا استغرق تنفيذه عديدا من السنوات. والأهم ـــ وهو في نظري السبب الرئيس في النجاح ـــ أنه لم يتخذ بالنظر إلى مرحلة واحدة في معالجة المياه فقط، بل تم النظر إلى جميع مراحل الإنتاج بدءا بحماية مصادر المياه ومرورا بتحسين المعامل وانتهاء بمتابعة المياه في الشبكات. أي أن الحل اتبع ما يسمى المعالجة الكليةHolistic Approach، وليست المعالجة الموضعية للمشكلة. التعقيم بالكلور ليس شرا محضا إنما التخلص منه واستخدام طرق طبيعية هو الحل الأفضل والمستدام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي