إندونيسيا تعيد فتح ملفات فساد زعيمها الأسبق

بعد الإطاحة به في ثورة شعبية عام 1998 انشغلت عائلة الرئيس الإندونيسي الأسبق سوهارتو في الدفاع عنه، وتبييض صفحته من تهم الفساد الكثيرة (وصفته منظمة الشفافية العالمية في التسعينيات بأنه أكثر زعماء العالم فسادا خلال السنوات العشرين الماضية) فيما ظل هو محميا من المساءلة بالساسة والعسكر الذين كانوا يدينون بمراكزهم وثرواتهم إلى سنوات حكمه الاثنين والثلاثين. في هذه الأثناء كانت وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني تجمع الدليل تلو الدليل على سرقاته وسرقات عائلته التي قيل إنها بلغت ما بين 15 ـ 35 مليار دولار في صورة أسهم وعقارات وجواهر ومنتجعات وحسابات مصرفية في الداخل والخارج. وهذا بطبيعة الحال مبلغ ضخم جدا، تجاوز سرقات نظرائه في دول نامية أخرى (فديكتاتور الفلبين الأسبق فرديناند ماركوس سرق ما بين 5 ـ 10 مليارات دولار، ونظيره النيجيري ساني أباشا سرق ما بين 2 ـ 5 مليارات دور، أما ساسة العراق الحاليون فحدث ولا حرج).
عام 2000، تم وضع الرجل تحت الإقامة الجبرية، وبدأت السلطات تحقيقاتها الرسمية حول سرقاته التي أسفرت عن اتهامه بجمع تبرعات تصل قيمتها إلى 571 مليون دولار عبر مؤسساته الخيرية، ثم قيامه باستثمار هذه الأموال لمصلحة عائلته.
وفي عام 2007، أمرت المحكمة العليا الإندونيسية سوهارتو وعائلته بإعادة تريليون روبية (128.5 مليون دولار) إلى خزانة الدولة. وما بين عامي 2000 وحتى تاريخ وفاته في 2008 ظل سوهارتو يتمارض كي لا يمثل أمام القضاء ويرد على تلك الاتهامات. غير أن القضاء كان قد حكم عليه في 2007 بإعادة 440 مليون دولار، قيل إنه اختلسها من صندوق لدعم التعليم، إضافة إلى مليار دولار كضرر. وفي عام 2002، في عهد الرئيسة ميغاواتي سوكارنو بوتري، صدر حكم على ابنه "تومي" بالسجن مدة 15 عاما بتهم قتل أحد القضاة، والفساد، وحيازة أسلحة غير مرخصة. كما صدر حكم آخر في العام التالي على أخ سوهارتو غير الشقيق "بروبوسوتيديو" بتهمة الاستيلاء على 10 ملايين دولار من المال العام.
والحقيقة التي كشفت عنها لجنة خاصة مكلفة بإصلاح القضاء الإندونيسي هي أن الأخير نفسه فاسد، ويعج بما سمي "مافيات القضاء"، وأنه لهذا السبب لم يكن جادا في ملاحقة سوهارتو وأفراد عائلته وأزلامه من الساسة والعسكر، بل كانت كل أحكامه مخففة، ولا يعقبها التنفيذ والمتابعة. وفي أعقاب تقرير اللجنة تم فضح اسم نحو ستة آلاف قاض قيل إنهم تلقوا رشا من بعض المحامين والمتنفذين لإصدار أحكام صورية.
أخيرا أعلنت المحكمة الإندونيسية العليا للمرة الأولى أن عائلة الرئيس الأسبق مسؤولة بالتساوي معه في كل الجرائم والآلام التي ارتكبت في حق الإندونيسيين خلال عهده المشؤوم، مطالبة العائلة بدفع 324 مليون دولار إلى خزانة الدولة خلال عدة أيام تحت طائلة اتخاذ إجراءات أخرى. ومثل هذا المبلغ الضئيل والحكم المخفف يعيد الملف إلى المربع الأول، ويثبت مجددا أن هناك من لا يسعى بجدية إلى تعقب كل فلس نهبه سوهارتو وعائلته وأزلامه، خصوصا أن الديكتاتور الأسبق كان يستخدم طرقا ملتوية في سرقاته؛ كي لا يظهر بنفسه في الصورة؛ حيث إنه أسس مئات الصناديق الخيرية لبناء المدارس والمستشفيات والطرق في الأرياف، والإنفاق على الأيتام ورحلات الحج، ثم استخدم أجهزة الدولة البيروقراطية لوضع العراقيل أمام حصول الشركات ورجال الأعمال على ما يلزمهم من تراخيص بسهولة إلا بعد التبرع لتلك الصناديق من خلال أفراد عائلته والمقربين إليه من أمثال صديقه في لعب الجولف وصيد السمك "بوب حسن"، ومع تجمع المبالغ الطائلة في تلك الصناديق كان ينهبها ويستثمرها لمصلحته. كما أنه كان يتقاضى عمولة بواقع 35 سنتا على كل برميل نفط تصدره شركة "بترامينا" الإندونيسية البترولية، بدليل أنه حينما تم التنقيب في دفاتر الشركة عام 1999، اتضح أن إجمالي ما تلقاه فاق مبلغ الستة مليارات دولار. هذا ناهيك عن أنه وأفراد عائلته كانوا يقترضون من المصارف المحلية من دون حساب، ومن دون أن يتجرأ أحد على رفض طلباتهم.
ثم لا ننسى في هذا السياق الفضيحة الكبرى التي انفجرت عام 1994، وكان بطلها أبناء وبنات الديكتاتور الذين تصارعوا على تراخيص استخراج الذهب من المناجم الإندونيسية الواقعة بمحاذاة إقليم كاليمنتان الماليزي، واستخدموا في ذلك نفوذهم وعلاقاتهم الخارجية، بل اتصالاتهم بمسؤولين وساسة في الولايات المتحدة وكندا. ومما قيل وقتها إن ابنة سوهارتو الكبرى "توتوت"، التي كانت نافذة ومرشحة لخلافته وصاحبة حظوة عنده، حصلت على أموال طائلة كعمولة من شركات أمريكية وكندية كي تتم ترسية المناقصات عليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي