الإذاعة وفاصل سماجة

يبدأ يوم الفرد منا في الصباح الباكر، الذي يأخذ الطريق إلى المدارس والعمل الساعة الأولى منه تقريبا، وأغلب الوقت تكون الإذاعة الاختيار الأول للتخفيف من وطأة الازدحام، لتصبِّرك إما بصوت فيروز, أو لتلتقط منها آخر الأخبار السياسية وأحوال الطقس, أثناءها تزدحم في رأسك قائمة الأشياء التي عليك أن تنجزها ذلك اليوم فتبدأ بجدولتها في ذهنك، وما أن تصمت فيروز وتنتهي الأخبار حتى يتشتت فكرك, لتعيش دقائق من التلوث السمعي بعد أن أصبحت اللغة المتداولة في بعض البرامج الإذاعية ليست اللغة العامية فقط, بل اللغة "الشوارعية", الموضة الجديدة التي أصبح يتداولها بعض المذيعين والمذيعات لكسب مزيد من الشعبية, و بدلا من أن نستمع لأشياء ترقى بذائقة المستمع العربي أصبحنا نسمع عبارات مثل "عطي سداح فرصة" العبارة التي اعتادت مذيعة عربية ترديدها ثم تتبعها بضحكات رقيعة تطلقها في كل مرة تستعرض فيها مفرداتها ولهجتها السعودية, ثم تتخلل البرنامج فقرات تحمل معلومات ضعيفة ليست بعيدة عما يتم تداوله من خرافات في الواتساب, ثم يضعون لك عبر الأثير مكالمة من شخص يقضي إجازته متسكعا بسيارته في الشوارع منذ التاسعة مساء إلى السادسة والنصف صباحا ليقول للناس بأنه "طفشان", ثم تتوالى المكالمات غير الهادفة. لا أدري كيف سمحت الوزارة والمسؤولون في الإذاعة بنشر هذا الكم من التفاهة على أساس أنه مادة خفيفة وترفيهية, وإلى جانب ذلك نحن مجتمع لا يتبع أغلب أفراده السياقة الآمنة في الأوقات العادية, فكيف يتم بث برامج إذاعية تعتمد على المكالمات في ساعة الذروة الصباحية وأغلب طرق المملكة تحت التحسينات, حتى إن طلب مقدم البرنامج من المتصل أن يتوقف على جانب الطريق, فمن السذاجة أن يتوقع بأنه سينصاع للتوجيه ويتوقف, ونحن نرى يوميا عدد السائقين المستهترين الذين يستخدمون الهاتف المحمول متجاهلين تحذيرات السلامة!
حتى حين يخرج المذيع في فاصل, يكون دعاية تافهة هدفها الأساسي التسويق للسلعة دون النظر لأي أبعاد أخرى، ودون مراعاة للمبادئ والأخلاقيات بل تقدم أسوأ دعاية عن أهل البلد، حين تسطح كيان أفراده وتشوه هويتهم, ولا أدري كيف تمت الموافقة على إذاعة دعاية تشوه صورة الزوج، وتظهر الزوجة بصورة بلهاء وسطحية, حيث يبدأ السيناريو بصوت زوجة حمقاء تستنجد بصديقتها الأحمق: (الحقيني زوجي كل يوم طالع) لتشير عليها صديقتها "الفلتة" بأن أقرب شيء لقلب زوجها أن تطبخ له نوعا معينا من الأرز سيجعله يلازم المنزل 24 ساعة, في رسالة ليست رخيصة ومغلوطة فقط بل تستهتر بعقول وتفكير الناس وتسطِّح مكانة الزوج في الأسرة من أجل ذكر اسم المنتج فقط.
حتى مع وجود الثورة التقنية ما زلت أعتقد أن القنوات الإعلامية مهمة جدا, سواء كانت سمعية أو مرئية وتقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في اختيار جودة المادة التي تبثها للجمهور, على الأقل لتحقق واحدا من أهم أهدافها بتقديم المعرفة للناس بموضوعية ومصداقية وبشكل شيق ومفيد, لذلك كان لزاما على الإذاعة ومحطاتها أن توظف وتختار أفرادا يشعرون بالمسؤولية, وأهمية بث مادة مفيدة, أفرادا يكون لديهم ثقافة عميقة وإطلاع, ويعرفون كيف يتقصون المعلومة الصحيحة ويفرقون بينها وبين معلومة الواتساب, ويجيدون شد انتباه المستمع وجذبه بمواضيع تهم حياته, وألا يعتمدوا في بناء حواراتهم على شد الناس باستخدام الألفاظ العامية أو غير اللائقة.
تعد الإذاعة مصدرا معرفيا موثوقا ومتعدد اللغات ونقطة لتلاقي الجمهور حول العالم, فبدلا من ابتكار برامج ترفيهية ترقى بالذوق العام وتدرب أذن المستمع على التقاط مفردات جديدة راقية, أصبحت تصب في أذنه مفردات سوقية تلتقط من قاموس "الدرباوية" وكأن مفرداتهم أصبحت أيقونة التميز ومفتاحا للدخول إلى قلوب وعقول المستمعين دون عناء.
ما زلت أرى أن الإذاعة كانت وما زالت واحدة من القنوات المهمة التي يجب ألا تهمل وتترك تبث التفاهة على الناس ببرامج لا هدف لها سوى تعبئة الفراغ بين نشرة الأخبار والوصلات الغنائية, بل الواجب أن ترقى البرامج لمستوى الجماهير، أن تطورهم وتدفعهم للأمام حتى لو كانت ترفيهية، مع ضرورة استخدام اللغة العربية في الحوارات لإحيائها, ولتصحيح أخطائها اللغوية الشائعة, حتى تعتاد الأذن على سماع المفردات اللغوية الصحيحة, الهزل والمزاح والإكثار من الضحك السمج لا ينجح البرامج أو يجعل لها شعبية, بل يجعلها تافهة مهما كان عدد المكالمات التي يستقبلها, فالتفاهة باتت الآن عنوانا رئيسا في حياتنا اليومية, اختار البعض مع الأسف مجاراتها بدلا من إيقافها والوقوف أمامها.
البث الإذاعي وسيلة تواصل لها جماهيرها حتى لو اعتبرها البعض قديمة أو دون فائدة، فلا ينبغي الاستهتار بجودة برامجها من باب التغيير أو ركوب الموجة. ما يصب في عقول الناس مسؤولية مهمة، ينبغي لوزارة الإعلام أن تحسب حسابها ألف مرة، لأن سماحها ببث الغث والسمين عبر الأثير والفضاء يحمِّلها المسؤولية المباشرة عن نشر التفاهة وتسطيح المجتمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي