مشاهير «الهبل»

حين يصر الإنسان السطحي على توثيق سخافاته في مقاطع، ويبثها في فضاء الإنترنت مستغلا سرعة انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي لكي يحصل على شهرة "هبلة" فهو إنسان تافه، حتى لو أضحك مقطعه الملايين هذا لا يعني أنه قدم مادة فكاهية، بل جعل من نفسه أضحوكة في ثلاث دقائق، وعادة لا تضحك الناس طويلا على مقطع أكثر من مرة لأن النكتة يتلاشى تأثيرها بعد انطلاقها أول مرة.

انتشرت في الآونة الأخيرة في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا عبارات تحذيرية في الأماكن العامة تقول (توقف من جعل الحمقى مشاهير)، بعد أن سئم الناس من تصدر الحمقى للمشهد الاجتماعي والإعلامي وكيف حولهم اهتمام الناس وتداول مقاطعهم إلى مشاهير، بينما هناك آلاف الموهوبين الذين قدموا أعمالا تخدم البشرية في مجتمعاتهم ولم يجدوا فرصة حقيقية للظهور، وأصبحت تلك العبارات التحذيرية الآن ميثاقا أخلاقيا اتفق عليه أفراد المجتمع هناك، حيث أصبحوا يشجعون بعضهم بعضا على التوقف عن إعادة إرسال تلك المقاطع.

والحقيقة عملية الدفع بالتافهين في تصدر المشهد الإعلامي، ليس جريمة فقط بحق الذوق العام، بل بحق الأجيال الجديدة التي ستنشأ على أن التفاهة في هذا الزمن هي ما تصنع الشهرة، التي تعمل على تعطيل عملية الارتقاء بالذوق العام، الذي يعد مسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع، فحين يساهم الفرد منا بإعادة إرسال تلك المقاطع المليئة بالتفاهة، من الطبيعي أن تصل لكل بيت ويحاول تقليدها الصغار، ليتم تعليمهم الحماقة على أساس أنها اللغة العصرية للشباب، بدلا من نشر المثل والقيم العليا.

والإعلام العربي ليس بعيدا عن كل ذلك الإسفاف، بل ساهم بشكل كبير في تسطيح المجتمع بشكل رسمي وعلني حين أخذ يتسابق باستضافة "مشاهير الهبل" في قنواته المحلية والفضائية فقط لأنهم يعتقدون بأن عدد متابعيهم في وسائل التواصل، كاف لعمل دعاية مجانية لقنواتهم!

ولو أخذنا جولة على حسابات "مشاهير الهبل" في مواقع التواصل، سنجد أنها تعتمد بشكل رئيسي على قلة الأدب والانحدار الأخلاقي وما يوثقونه من "تفاهة" لا توجد به أي ملامح للموهبة بل جراءة في ابتكار السخافة لإضحاك الآخرين.

وإذا كنا صادقين مع أنفسنا، سنصل لهوية الذي جعل هؤلاء التافهين مشاهير، لأنه لا أحد سوانا سوق لهم وعزز من شهرتهم المغشوشة، حين تناقل الكبير والصغير مقاطعهم السامجة وصنع منهم أيقونة للكوميديا، وهم في الأساس لا يملكون أي رسالة، بل التفاهة التي تعمل على تشويه الثقافة العامة، وستكون سببا في انحدار الأخلاق، وتبديد قيم المجتمع إلى أن تتلاشى بالتدريج، بعد أن يختفي الخط الأحمر الذي يفصل بين الدعابة وقلة الأدب.

فعلى سبيل المثال، حين انتشرت رقصة البطريق، أعاد أداءها المئات حول العالم ولكن أصر التافهون في مجتمعنا على أدائها بملابسهم الداخلية دون حياء (السروال والفانيلة) لكي يكون وقع تأثيرها أكبر، والمشاركة بها في فضاء الإنترنت دون أن يعوا بأن ذلك من الممكن أن ينقل للعالم صورة سيئة عن شباب البلد.

حتى الإعلام السياسي انجرف "لمشاهير الهبل"، إذ إلى الآن لم أجد مبررا مقنعا للدعاية الإعلامية التي قادتها محطات التلفزة العربية لصاحبة المقولة الشهيرة (شت أب يور ماوس أوباما) فلم ينته الأمر على التهكم على عبارتها بعدة طرق، بل تم استضافتها في برامج حوارية في أكثر من دولة بشكل لافت للنظر، ما دفعها لتصديق أنها تمتلك موهبة، لذلك أخذت تظهر في مقابلات لتكرر عبارتها المصطنعة مرارا وتكرار لدرجة الغثيان، ولم تخجل من نفسها وتكتفي باللقاءات، بل غامرت بالظهور في برنامج المواهب الشهير الذي لا يقبل عادة إلا الموهوبين (آرب جوت تالنت)، مع أن الجميع يعلم أنها لا تمتلك أي موهبة، حتى بعد أن تم رفضها لإخراجها من المسرح كانت تجادل بأنهم لم يمنحوها فرصة بمعنى أنها لو منحت مزيدا من الوقت كان من الممكن أن "تهز المسرح" بتغريدها باللغة الإنجليزية المصطنعة، الذي باتت لا تضحك على قدر ما تثير الشفقة والغثيان!!

وإذا افترضنا أن شهرتها السريعة فاجأتها وأوهمتها بأنها تمتلك موهبة، كيف سمحت لها إدارة البرنامج بالظهور! ولم يقف الأمر عند البرامج الحوارية، بل تسابق عدد من الإعلاميين والمذيعين بالتقاط الصور التذكارية معها على أساس أنها تمثل المرأة المناضلة السياسية في الشارع المصري، وهي بعيدة كل البعد عنها، ولا أدري إلى الآن تحت أي شعار تم تبرير دعوتها لحضور "مؤتمر الإعلاميين العرب" في الإمارات. ولم أجد سببا لاستضافتها في أي حدث سوى للتهكم عليها، لأنها سمحت بذلك، وفي نفس الوقت سمحت بنقل صورة مغايرة عن المرأة المصرية، وهي لا تمثل أي امرأة بخلاف نفسها، ولا أستطيع أن أستوعب كيف أصبح الناس يثمنون التفاهة ويحتفون بها!

آن الأوان لتنتبه، وتتوقف عن إعادة إرسال المقاطع التافهة حتى لو أضحكتك، لكي لا تحول مزيدا من التافهين إلى مشاهير، عليك أن تحاول ألا تنجرف لأعمالهم التي تسلب الوقت، وتذكر حين تعيد إرسال سخافاتهم فأنت بذلك تساهم في تشويه قيم المجتمع والذائقة الجمالية والأخلاقية في محيطك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي