Author

أول العلاج رسوم الأراضي وآخره الكي

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
لم يدرك أغلب تجار العقار، والمرتبطين بهم من سماسرة ووسطاء، وبعض حملة الأقلام الصحافية العقارية، أقول، لم يدركوا بعد حتى الساعة أن عزم الدولة منذ بدأت بالتصدي للتشوهات في السوق العقارية، أصبح حقيقة واقعة لا مفر من مواجهة صدمتها وآثارها القوية المرتقبة. وأن ما تعاني منه السوق من أورام احتكارية واسعة الانتشار، لا تجد لها مثيلا في أغلب بلدان العالم، إضافة إلى ما نشأ عنها من تشكل أفران ساخنة لتدوير الأموال والثروات على مجرد مساحات جرداء من الأراضي، نتج عنها تضخم سعري مخيف جدا، أتت حرائق المضاربة عليها وهي أشبه برأس الدبوس مقارنة بتلك المساحات المحتكرة بمليارات الأمتار، إلى تضخم أسعارها مجتمعة في أقل من عقد من الزمن بأكثر من ثمانية أضعاف سعرها الحقيقي، أصبح يشكل تهديدا مخيفا لمقدرات الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، اقتضت الضرورة القصوى أن تتولى الدولة معالجته بعديد من السياسات والأدوات، وأول تلك الأدوات وليس آخرها؛ هو فرض الرسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات والمراكز. لقد وصلنا جميعا إلى نهاية الطريق المسدود، ولا مجال لدى محترفي وهواة (لعبة) العقار لا (السوق) بمفهومها المتعارف عليه، أن تتوقف أو ترتدع ألعابهم البهلوانية، لأجل الدفع المستمر والمفتعل بمستويات الأسعار إلى مسار أعلى وأعلى إلى ما لا نهاية! كسب أعضاء تلك الألعاب وحدهم، وفي المقابل ألحقت أبلغ الأضرار والخسائر الفادحة بالاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء. ولأن اللعب بالأموال والثروات لم تجد أنظمة أو سياسات محددة تردعها وتتصدى لها، فقد نجحت في زيادة استقطابها لمزيد من السيولة المالية المتوافرة لدى الأفراد، تاركة خلف ظهرها فرص الإنتاج والتشغيل والتوظيف، التي لم تعد هوامش أرباحها المجدية لنمو الاقتصاد الوطني تسمن أو تغني من جوع، مقارنة بالهوامش المضاربية المتحققة عن شراء أرض اليوم وبيعها لاحقا بأضعاف مضاعفة، وما جدوى تحقيق 8 إلى 10 في المائة كمكاسب سنوية على رأس المال المستثمر، مقارنة بما لا يقل عن 90 إلى 150 في المائة كهامش ربحي للمضاربات العقارية خلال الفترة نفسها؟! ولك أن تتخيل استمرار تلك الأوضاع البالغة التشوه، لينتج عنها استقطاب مزيد من السيولة المحلية للاقتصاد، واندفاع مزيد من الملاك لتحويل أموالهم من كياناتهم الإنتاجية الراهنة إلى أفران المضاربات على الأراضي، وقد يضطر البعض منهم لهذا الخيار رغما عنه مقابل ارتفاع تكلفة التشغيل عليه، نتيجة ارتفاع فاتورة الإيجارات المتأثرة بارتفاع أسعار العقارات والأراضي، لتفكك على أثره عقود العمالة والتوظيف، فإن كان مواطنا أو مواطنة فأهلا به إلى عالم العاطلين عن العمل، وإن كان وافدا فأهلا به في الغالب للعمل لدى أحد أنشطة التستر التجاري المدارة من أحد أبناء جنسيته. سنجد أننا يوما بعد يوم، سنقف أمام زخم هائل جدا من التشوهات والتحديات الجسيمة، التي لا قبل لأي اقتصاد حول العالم بها. لهذا أتت الأهمية القصوى للتوصية بإقرار الرسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات والمراكز، والعمل العاجل على إعداد الآليات والترتيبات التنظيمية، واستكمال بقية الإجراءات النظامية اللازمة لتطبيقه في أقصر زمن ممكن. إنها فقط الشوكة الأولى في خاصرة (التشوهات) العقارية وسوق الإسكان، التي ستحدث بكل تأكيد صدعا عميقا في جسد العقار والإسكان، ذلك الجسد المكتظ من رأسه إلى أخمص قدميه بالأورام والأمراض والعلل. فالرسوم من جانب؛ ستحل على رأس ملاك الأراضي ومحتجزيها لأعوام طويلة كتكلفة باهظة لقاء ذلك التعطيل والاكتناز، ومن جانب آخر سيتوقّف تماما الطلب عليها بهدف المضاربة، تاركا المجال فقط لمصلحة الطلب الحقيقي الهادف للانتفاع من الأرض، وهو طلب أدنى بكثير من حجم عمليات المضاربة والتدوير. وعليه؛ فكما أن احتفاظ كبار الملاك بتلك المساحات الشاسعة من الأراضي دون عناء أو تكلفة مقابل ارتفاع أسعارها نتيجة زيادة الطلب الإسكاني، وتوافر الخدمات التحتية، ونتيجةً لأهم العوامل المتمثلة في زيادة حدة المضاربات، فهو اليوم بعد فرض الرسوم السنوية عليها، يواجه كل محتكر وجها لوجه جبايتها نظاميا من الدولة، وهي رسوم لن يكون في مقدوره توفيرها سنويا حتى وإن رفع قيمتها السوقية كما اعتاد فعله سابقا، ذلك أن أمثاله من المحتكرين والمقتدرين ماليا يواجهون ذات التحدي! ولا يوجد على الإطلاق من لديه القدرة أو حتى أدنى استعداد للشراء بتلك الأسعار، وتحمل مخاطر الاحتفاظ بها ودفع رسومها، ليجد نفسه محاصرا في زاوية تكاد تكون معدومة الخيارات، إلا أن يبيع جزءا منها لتوفير السيولة اللازمة لدفع الرسوم، وهو سلوك سيعم نمطه أغلب ملاك الأراضي، بما سيؤدي إلى إغراق جانب العرض، بعد عقود من إغلاق أبوابه طمعا في تنامي أثمانها، لتخضع من ثم لاتجاه سعري هابط، ستكون نسبة هبوطه مرتبطة بنسب الأراضي البيضاء إلى إجمالي مساحات المدن والمواقع، فكلما زادت نسب سيطرتها على مساحات المدن، زادت نسب هبوط أسعارها! ولك أن تتخيل نسب الانخفاض مقارنة بنسب مساحات تلك الأراضي البيضاء إلى إجمالي مساحات المدن الموجودة فيها، التي راوحت بين 40 في المائة إلى أعلى من 70 في المائة حسب المدن الرئيسة في البلاد. مؤدى كل ما تقدم المتمثل بفرض الرسوم على الأراضي البيضاء؛ يعني تعرض أسعار الأراضي المتضخمة لصدمة محتملة قوية، حتى قبل اكتمال آليات العمل الساعية بها إلى التنفيذ الفعلي، وهو ديدن الأسواق والأسعار أن تتفاعل مبكرا مع أي قرارات أو أنظمة تم الإعلان عنها، ولن تنتظر إلى أن يبدأ التطبيق الفعلي لها. وستكون صدمة الأسعار وتراجعها قوية جدا لعدد من الأسباب، لعل من أهمها كما أشير أعلاه، ارتفاع نسبة مساحات الأراضي البيضاء إلى المساحات الإجمالية للنطاقات العمرانية للمدن والمراكز، التي لا تقل عن 40 في المائة وصولا إلى 60 في المائة ونحو 70 في المائة كما هو قائم في المنطقة الشرقية والرياض على التوالي. كما سيزيد من قوة تلك الصدمة تدني نسبة ملاك تلك المساحات من الأراضي الشاسعة إلى إجمالي السكان، وبالرغم من الافتقار إلى تلك النسب بصورة محددة، إلا أنها كما تنبئ بيانات السوق العقارية المتوافرة حتى تاريخه، تشير إلى أنها في أدنى معدلاتها، ما يؤكد أن وقع صدمة الأسعار سيأتي أعلى من التقديرات التي وصلت إلى احتمال تراجع الأسعار بنحو 30 في المائة، لتتأرجح في منظور العام الأول بين 40-45 في المائة إلى 70-75 في المائة، يتوقع أن تحدث تلك التطورات التي بدأت بوادرها مبكرا قبل أكثر من أربعة أشهر مضت، في مشهد دراماتيكي مثير اصطلح على تسميته في عالم الأسواق (ببيع القطيع). إن ما يزيد من سخونة التطورات؛ أن فرض هذه الرسوم على الأراضي البيضاء ليس إلا بداية العلاج، حيث سيليه المزيد من القرارات والإصلاحات المترجمة للتوجيهات العاجلة التي تضمنها الخطاب الملكي الأخير لخادم الحرمين الشريفين، والمستجيبة لتلبية تطلعات واحتياجات أفراد المجتمع. والله ولي التوفيق.
إنشرها