توازن واستقرار الحيز المالي للاقتصاد الوطني
استندت إعادة برمجة تنفيذ المشاريع التنموية في السعودية خلال الفترة الراهنة إلى ركيزتين أساسيتين، الركيزة الأولى: حماية الاقتصاد الوطني من الصدمات التضخمية، التي يحتمل حدوثها مع زيادة الإنفاق الكبير على تلك المشاريع بأكثر من الطاقة الاستيعابية للاقتصاد، وهو ما سيدفع في مجمله إلى تعرض الاقتصاد لمعدلات عالية جدا من الارتفاع المطرد للأسعار (التضخم)، الذي سيتطلب كثيرا من الجهود والإنفاق لامتصاص آثاره الواسعة، وجميعها ستدفع بوتيرة مستويات الأسعار نحو مزيد من الارتفاع، والدخول من ثم في حلقة مفرغة من التضخم، في الوقت ذاته الذي يمكن تجنب تلك الصدمات التضخمية بمرونة أكبر على طريق تنفيذ تلك المشاريع خلال فترة أطول، والاعتماد على منهجية مرنة تتجنب اصطدام الاقتصاد الكلي بتضخم مكلف.
الركيزة الثانية: حماية الأطراف الأخرى في الاقتصاد ممثلة في القطاع الخاص والمجتمع من المزاحمة الحكومية على مصادر التمويل المحلي، التي سيؤدي حدوثها باستحواذ الحكومة على أغلب موارد التمويل المحلي المتاح إلى إضعاف حصص بقية الأطراف والنشاطات الاقتصادية من التمويل، ومن ثم التسبب في تباطؤ نمو تلك النشاطات، وعجزها عن توفير السيولة اللازمة لتمويل نشاطاتها وخطط توسعها في الجانب الإنتاجي، إضافة إلى تقليص نمو الإنفاق الاستهلاكي لمختلف شرائح المجتمع، ومن ثم إضعاف الطلب الاستهلاكي محليا على كثير من مجالات الإنفاق المحلي، على رأسها التمويل العقاري اللازم لتملك المساكن، إضافة إلى الطلب على منتجات وخدمات القطاع الخاص.
وبالنظر في مجمل النتائج العكسية المحتملة لكلتا الركيزتين أعلاه، وما قد يقع الاقتصاد الكلي تحت ضغوطه المتمثلة في تسارع مستويات الأسعار نحو مزيد من الارتفاع (التضخم)، نتيجة زيادة الإنفاق على المشاريع بأكثر من الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الكلي، وما قد يقابله من تراجع لقدرة الإنفاق الإنتاجي للقطاع الخاص عموما، ولدى المنشآت الصغيرة والمتوسطة على وجه الخصوص، والإنفاق الاستهلاكي للمجتمع نتيجة لتقلص حظوظهما من التمويل اللازم، فكل هذا سيؤدي بكل تأكيد في نهاية نتائجه العكسية إجمالا إلى دخول الاقتصاد الكلي في موجة من الركود التضخمي المؤلم، الذي تستعصي حلوله في الأجلين القصير والمتوسط على أي سياسات اقتصادية ومالية مهما كانت قوتها، وأن الحلول الأنسب في مواجهة مثل هذه الاحتمالات، تقوم على تجنب حدوثها مسبقا، والعمل على حماية الاقتصاد الكلي من الوصول إلى مخاطرها وضغوطها المحتملة بكل ما تقتضيه السياسات الاقتصادية التحوطية، وهو ما عملت على تحقيقه السياسات الأخيرة التي تبنتها الأجهزة الاقتصادية والمالية محليا.
يمكن تجنب كل تلك الآثار العكسية بكثير من الخيارات البديلة، وهو ما سبقت الإشارة إليه وفقا لما صرح به وزير المالية في عديد من المناسبات الأخيرة، التي تمحورت حول ما سماه، كمسؤول أول عن منظومة السياسة المالية محليا، بالمحافظة على توازن واستقرار "الحيز المالي" للاقتصاد الوطني، الذي يستهدف الموازنة بين متطلبات الإنفاق المحلي من جانب، ومن جانب آخر تحقيق التوازن في الطلب على مصادر التمويل المحلي، الذي سيكفل تحققه ضمان قدرة الأطراف كافة (الحكومة، القطاع الخاص، المجتمع) على تلبية متطلباتها من التمويل، الذي ستصب نتائجه الإيجابية مجتمعة في اتجاه دفع الاقتصاد الكلي بمزيد من النمو المستدام، واستمرار العمل على محافظة الاقتصاد الوطني على قدرته بالنمو الشامل والمستدام، وهو الأمر المستبعد تحققه في ظل الاستحواذ الأكبر على التمويل من الحكومة مقارنة ببقية الأطراف، والمستبعد أيضا حدوثه في ظل ارتفاع التضخم بأعلى من مستوياته المقبولة اقتصاديا وماليا.