الأم التي أصبحت ابنة
إذا عرفنا أن الفلسفة في الخطاب العام تشير إلى الجدل والمحاجة بقصد الإقناع، يصبح ما من إنسان إلا وفيلسوف بطبعه وإن كان لا يمارس الفلسفة أو يهواها أو حتى لا يؤمن بها فهو رغما عنه يتخذ موقفا فلسفيا في حالة السلب والإيجاب.. أو كما قال أرسطو: حتى وإن كنت تعارض الفلسفة فإنك لمعارضتها تتفلسف!
كانت الفلسفة تعني بالأساس الانشغال بالقضايا الكبرى لفهم العالم وفق منطق تكون فيه النتائج متسقة مع المقدمات لكنها عند أفلاطون في (جمهوريته) التي تعد أول تدوين للفلسفة في اليونان القديمة قبل نحو 2500 سنة أصبحت تعني مباحث في الحق والخير والجمال ثم بعدئذ ذهب تعريفها إلى أنها علم يبحث في الوجود والمعرفة والقيم.
جاءت كلمة "فلسفة" اليونانية الأصل بالمصادفة حين أراد المعجبون بالفيلسوف "فيثاغورس" صاحب النظرية الشهيرة باسمه "نظرية فيثاغورس" أن يعبروا له عن تقديرهم لغزارة علمه وبراعته وعمق تفكيره قائلين له إنك حكيم يا فيثاغورس فرد عليهم: إنني لست حكيما ولكنني محب للحكمة. "فيلو سوفي" حيث "فيلو" محب و"سوفي" حكمة .. وهكذا ولدت كلمة الفلسفة بمعنى حب الحكمة!
لم يتزحزح هذا المعنى بعيدا عن مكانه منذ ولادة الفلسفة حتى اليوم، وإن كانت "الحكمة" قد توسعت وتعمقت دلالاتها في الفهم والتفسير والتأويل لتبحث في "معنى المعنى" أو التعبير عنه أو ترجمته حسب ما ذهب ليفي شتراوس في كتيب له بعنوان "المعنى" من ترجمة صبحي الحديدي.. إلا أن هذه الفلسفة التي كانت "أم العلوم" حدثت لها مفارقة عجيبة وعلى نحو لم يحدث لغيرها من العلوم الإنسانية المعروفة.. حيث كانت الفلسفة لمئات السنين وحتى عصر النهضة الأوروبية تعتبر عالما قائما بذاته تضم في مدارها ما له علاقة بالروح والوجدان وما له علاقة بأصل الأشياء والطبيعة وعلتها ومعلولها ومكوناتها وتحولاتها وكان فلاسفة اليونان على سبيل المثال يبحثون في كل شيء.. من أغوار النفس الإنسانية والقيم والعدل إلى عالم الطبيعة وعوالم النبات والحيوان والطبابة والعقاقير والرياضيات وما إلى ذلك..
وقد بقيت كل العلوم في كنف الفلسفة "الأم" إلى أن جاء عصر النهضة الأوروبية، فالإصلاح الديني فعصر العقل والعلم حين مثل كل من الفيلسوف الألماني ديكارت والفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون بأعمالهما منعطفا جديدا في نهج الفلسفة لتأخذ منحى عقليا عمليا عززته التطورات المتلاحقة لظهور البرجوازية وعصر الأنوار والثورة الصناعية فتمخض بطن هذه الأم الكلية (الفلسفة) عن بنات أفكارها على هيئة مباحث علمية جديدة مستقلة يختص كل منها بعلم من علوم كانت الفلسفة بالأساس تعالجها كجزئيات في نسيج كليتها وشموليتها لكنها شيئا فشيئا استقلت علوما بذاتها كالفيزياء والرياضيات والكيمياء والأحياء والاقتصاد والسياسة والاجتماع... إلخ وسار كل علم في الشوط بعيدا عن تلك "الأم"، حتى كادت الفلسفة الأم أن تفقد عرشها الذي تربعت عليه آلاف السنين.
فقدان الفلسفة أمومتها للعلوم أدى بها إلى أن تصبح "ابنة" استثنائية لبناتها لا يستغنين عن دورها الضروري في رعايتهن حيث أسفرت جميع العلوم عن معضلات بنيوية ومنهجية وقيمية معقدة في تماسها مع الواقع وعلاقتها بالإنسان وبدا أن هناك قدرا من الأسئلة الجديدة يطرحها كل علم من تلك العلوم تحتاج إلى من يبحث لها عن مبررات وغايات ويعلل نتائجها ويستشرف آفاقها.
وهكذا ولدت فلسفة العلوم من إشكالات العلوم وأصبحت بنت كل علم .. فإذا بنا نجد فلسفة للاقتصاد وفلسفة للسياسة وبالمجمل فلسفة لكل علم. تطبيقي أو نظري.. ما يعني أن الفلسفة عادت من جديد، ليس بهيئة كلية ومنطق كلي كما كانت في سابق عهدها.. وإنما بهيئات متعددة بتعدد العلوم، وبمنطقيات تناسب كل علم.. وانسحب هذا التحول الجديد في مكانة الفلسفة، على مكانة "الفيلسوف" نفسه، فلم يعد هناك فيلسوف من نوع سقراط أو أرسطو يبحث في كل شيء بل صار الفيلسوف يقصر مجال اهتمامه على فلسفة علم من العلوم .. لقد فقد الفيلسوف أبوته كذلك حين فقدت الفلسفة أمومتها.. حتى وإن كانت هناك أصوات تنادي اليوم بالتخفيف من غلواء الإيغال في تخصص واحد. لكن ذلك شأن آخر!