هل تنضم روسيا إلى «أوبك»؟
انخفضت أسعار البترول منذ يونيو الماضي انخفاضا حادا بلغ قريبا من 50 في المائة. وقد اختلفت التفسيرات حول ما حدث ويحدث الآن في سوق البترول. فهناك من يقول إنها خطة سعودية – أمريكية لمعاقبة كل من روسيا وإيران على سياساتهما الخارجية المتهورة. وهناك من يفسره تفسيرا اقتصاديا محضا. وسواء صحت نظرية المؤامرة أم لم تصح فإن تحقيق أي أهداف سياسية لأي دولة لا يمكن أن يكون بمعزل عن حقائق وموازين القوى، سياسية واقتصادية وعسكرية. ولذلك فإنني أترك التفسير السياسي لهذه الأزمة للمؤرخين حينما يمضي وقت طويل عليها، فربما تنكشف حقائق غير معروفة الآن. أما التفسير الاقتصادي لهذه الأزمة فهو أن هناك تهديدين يواجهان صناعة البترول: أحدهما من داخلها وهو احتمال تزايد اكتشاف وإنتاج المزيد منه، والآخر من خارجها وهو تزايد احتمال أن تحل بدائل أخرى للطاقة محله. الانحدار الكبير والسريع لأسعار البترول في هذه الأزمة هو نتيجة للنوع الأول من التهديدات. فقد زاد إنتاج أمريكا من البترول والغاز الصخريين زيادة كبيرة جدا في السنوات الخمس الماضية حتى وصل إلى تسعة ملايين برميل يوميا. هناك ثلاثة عوامل أدت إلى هذه الزيادة الكبيرة هي:
أ- تطور تقنية استخراج البترول والغاز الصخريين.
ب- الارتفاع المستمر في أسعار البترول خلال الاثني عشر عاما الماضية.
ج- الانخفاض الشديد لأسعار الفائدة في أمريكا بسبب الأزمة المالية الحالية والذي شجع الشركات الأمريكية على الاقتراض والإنتاج.
لقد قيل من ضمن الأسباب الاقتصادية إن المضاربين كان لهم دور كبير في تدهور الأسعار وذلك بسبب التغير الذي كان متوقعا في السياسة النقدية الأمريكية. إذ راجت توقعات في منتصف العام الماضي أن بنك الاحتياطي الأمريكي سيقوم برفع أسعار الفائدة مما دفع المستثمرين إلى تخفيض استثماراتهم في السلع، ومنها البترول، والاتجاه إلى السندات الأمريكية. ربما كان لهذه التوقعات دور في إشعال هذه الأزمة في البداية، ولكن حقيقة إعلان الاحتياطي الأمريكي أنه سيكون "صبورا" بشأن رفع أسعار الفائدة يلغي دور المضاربات في استمرار الأزمة. لا بل لو كان هذا التفسير صحيحا لكان من المفروض أن تعاود الأسعار الارتفاع وذلك لأن أسعار الفائدة الأمريكية لم ترتفع. ولذلك فإن التفسير الأقرب إلى الصحة هو حقيقة الزيادة الكبيرة جدا في إنتاج أمريكا من البترول والغاز. وقد عبر وزير البترول السعودي عن رفض بلاده لخفض «أوبك» إنتاجها "بأننا سنفقد شيئا من حصتنا في السوق دون أن ترتفع الأسعار" وهي وجهة نظر لها وجاهتها ولا شك ولو إلى حين. الموقف السعودي ومن ورائه موقف «أوبك» بعدم خفض الإنتاج يبعث ثلاث رسائل إلى السوق أولها أن السعودية لم تعد مستعدة للعب دور المنتج المرجح الذي يمتص اضطرابات السوق كما كانت تفعل في الماضي. ثانيها أن أوبك لا تستطيع ولا ينبغي لها أن تقوم بهذا الدور. ثالثها أن على المنتجين من خارج «أوبك» التعاون في هذا المجال وأن الخطوات الجادة نحو هذا الهدف يجب أن تبدأ من هناك. ولكن من هناك؟ هناك منتجون مستقلون كثر خارج «أوبك» إلا أن أهمهم روسيا كدولة والشركات الأمريكية المستثمرة في البترول والغاز الصخريين في أمريكا. وكل له محددات حركته المختلفة.
إن الذين يخسرون من انهيار أسعار البترول كثيرون ولكن أهمهم روسيا التي تقع تحت طائلة العقوبات الاقتصادية الغربية والتي يبدو أنها لم تفعل بالاقتصاد الروسي ما فعله انهيار أسعار البترول. ونتيجة للانهيار السريع لأسعار البترول انخفض الروبل أمام العملات الأخرى بنحو 50 في المائة ولم تستطع الحكومة الروسية إيقاف هذا التدهور وعكسه قليلا إلا بضخ كميات كبيرة من العملات الأجنبية في السوق. وقد خسرت روسيا 20 في المائة من احتياطياتها من العملات الأجنبية للدفاع عن الروبل. كما اضطرت روسيا إلى رفع سعر الفائدة إلى 17 في المائة للحد من هروب رؤوس الأموال. وقد أعلن وزير المالية الروسي أن بقاء سعر البترول عند مستوى 60 دولارا يعني انكماش الاقتصاد الروسي في عام 2015 بمقدار 4 في المائة، كما يتوقع أن يصل التضخم إلى 10 في المائة. وقد وصل الأمر إلى أن يأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإلغاء إجازة عيد الميلاد الروسية للمسؤولين الروس وكأن روسيا تعيش أجواء حرب. وهي أجواء حرب حقيقية إلا أن سلاحها المال والاقتصاد وليس الأسلحة العسكرية!
ما يشهده سوق البترول اليوم هو تغير بنائي Structure Change وليس تغيرا عابرا ويقصد بذلك أنه تغير عميق وستمتد آثاره لسنوات قادمة. إن أسعار البترول لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الصيف الماضي. هذا الوضع سيستمر لفترة طويلة قادمة. وقد يندهش البعض إذا قلنا إن من يجلس على كرسي القيادة في السوق ليس «أوبك» ولا الدول المنتجة خارجها وإنما الشركات الأمريكية المنتجة للغاز والبترول الصخريين. وهي قيادة من موقع الضعف لا من موقع القوة! وذلك لأن تكلفة إنتاج هذه الشركات عالية جدا بالقياس إلى إنتاج البترول التقليدي. وهذه التكلفة تشكل قيدا ثقيلا على حركتها، فهي ستكون مضطرة للاستمرار في الإنتاج لتقليل خسائرها. كما أن هذه الشركات لا تستطيع أن تشكل منظمة " أوبك " خاصة بها لأن قوانين مكافحة الاحتكار الأمريكية ستكون لها بالمرصاد، فضلا عن أن تكون جزءا من ترتيب مع جهات خارج أمريكا لمعالجة الوضع. وبالتالي فان إنتاج هذه الشركات سيشكل عامل ضغط على أسعار البترول حتى تنخفض إلى الحد الذي يجبر بعضها على الخروج النهائي من السوق. ولكن هذا قد يأخذ بضع سنوات. ولذلك فإن طوق النجاة يقع في يد روسيا إذا هي نسقت سياستها البترولية مع منظمة «أوبك». وعلى الرغم من أن روسيا تحضر بعض اجتماعات «أوبك» بصفة مراقب إلا أن مصداقيتها البترولية ستتعزز كثيرا إن هي قدمت طلبا رسميا للانضمام إلى «أوبك». ولكن هل تقبل «أوبك» بانضمام روسيا؟ قد يبدو الأمر مرحبا به لأول وهلة. ولكن عضوية روسيا في «أوبك» قد تشكل مزاحمة للدور السعودي فيها. ولذلك فإن على روسيا "تحلية" هذا الطلب بمبادرة سياسية واضحة تنهي المأساة التي يعيشها الشعب السوري منذ أكثر من أربعين عاما. فهل يبادر القيصر الروسي إلى ذلك؟!
إن لدى روسيا عدة عناصر للقوة، فهي قوة عسكرية نووية من الدرجة الأولى وأكبر دول العالم مساحة ولديها وفرة في الموارد الطبيعية وقاعدة علمية مهمة. لكن هذه الأزمة تثبت أن روسيا دولة من الدرجة الثانية اقتصاديا وأن موازين القوة العسكرية لا تكفي لتغيير حقائق الاقتصاد. لقد مر قرابة ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ولكن روسيا لما تتعافى من خبائث النظام الشيوعي بعد. لقد كان لانهيار أسعار البترول في الثمانينيات من القرن الماضي والذي بدأ عام 1982 دور مؤثر في انهيار الاتحاد السوفياتي السابق عام 1991. فهل يكرر التاريخ نفسه؟ أستبعد ذلك. ولكن هذه الأزمة يمكن أن تشكل ضغطا كبيرا على الحكومة الروسية، فالشعب الروسي الذي يعيش في ظل نظام شبه رأسمالي اليوم هو غير الشعب الذي كان يعيش في ظل النظام الشيوعي. ولذلك فإن على الحكومة الروسية أن تفعل شيئا لمصلحة شعبها. ولعل ما اقترحناه سيعود على روسيا بنتائج إيجابية كبيرة جدا دون أن يكلفها الكثير!