غرور الآباء وعقوق الأبناء

ما أكثر ما سمعنا من آبائنا منذ كنا صغارا "أنتم يا عيال ها الوقت" أو "أنتم يا ها الجيل التالي"، وما شابه هذه المقولات متبوعة بتعليقات تشعرنا بأننا لا نعرف أو لا ندرك أو لا ندري، ويُنظَر إلينا بشيء من الدونية وانتقاص قدراتنا على الفهم، وما يخفى من عواقب الأمور.
حين كبرنا منحنا لآبائنا وأمهاتنا الأعذار، فقد كان معظمهم ممن لم يتلق تعليما أو حتى لا يفك الحرف لا قراءة ولا كتابة.. وكنا نحن نشكل بالنسبة إليهم عالما مغايرا من خلال ما يسمعونه منا عن علوم ومعارف هي بالنسبة لهم طلاسم وألغاز تتحدى عقلياتهم.. وكان طبيعيا أن يشكل ذلك لهم تهديدا معنويا، وأن يكون رد فعلهم تجاهنا على ذلك النحو من الحدة والاستخفاف بنا، على الرغم من أنهم لا يلبثون أن ينسحبوا من هذا الموقف معبرين عن تطلعهم إلى أن يرونا أطباء ومعلمين ومهندسين وفي مناصب ومهن يفخرون بها.
نحن آباء اليوم، يكاد معظمنا يقف الموقف نفسه، ويرتكب الغلطة نفسها، ويمارس الدور السابق ذاته في النظر بخفة إلى آراء ومعتقدات وأفكار الأبناء..
وإذا كان آباؤنا قد اتخذوا منا ذلك الموقف، فعذرهم أن أغلبيتهم، كما سبق القول أميون، فضلا عن أنهم ذاقوا مرارة الفقر والمرض والخوف، ما جعلهم في الأساس مستفزين (لكونهم مسكونين بالحذر والقلق لما مروا به من شقاء) ومن عدم مبالاتنا بمعاناتهم تلك.. فكيف لنا أن نبرر لأنفسنا اليوم ونحن الآباء المتعلمون في أن نتشابه مع آبائنا؟!
من المؤكد أننا لسنا كآبائنا، لكن من المؤكد أيضا أننا حين كنا أبناء لم نكن مثل أبنائنا اليوم.. ومع أن هذه حقيقة قد عبر عنها كثير من المفكرين والكتاب مثل قول جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم.. أولادكم أبناء الحياة.. والحياة لا تقيم في منازل الأمس!"، إلا أن هناك دائما ميلا مفرطا من قبل الآباء لصياغة الأبناء على نمط ما يريدونهم أن يكونوا عليه.
لقد كان يسترعي انتباهي كثيرا في قراءاتي مذكرات الكتاب والمفكرين والعلماء والقادة والنابغين إشارةُ معظمهم في سيرهم الذاتية إلى أن آباءهم (الوالد أو الوالدة) كانوا يريدون له أو لها أن يصبح متخصصا في هذا المجال أو ذلك، لكنه خيب ظن والديه، واتجه لدراسة تخصص آخر، أو عمل في مهنة أخرى هي ما قادت له النجاح والشهرة.. ولو كان أولئك أبناء لآباء أميين لما كان في الأمر غرابة، غير أن أولئك الآباء في الغرب أو في الشرق كانوا متعلمين، وبعضهم على درجات عليا، بل بعض هذا البعض كانوا أيضا عباقرة ومشاهير، ومع ذلك كانت مسارات أولئك الأبناء في الأغلب على غير هوى ومزاج أولئك الآباء.
هل تراني بهذا القول أرثي وأسطر كلمات الوداع لأبوة وأمومة لم يبق منها سوى الرابط البيولوجي؟ أم أني أسوق قولي هذا في اتجاه تعزيز عقوق الأبناء للآباء، وتحريض الأبناء على إدارة ظهورهم للآباء، أو سد آذانهم عن سماع كلمات آبائهم؟ أم تراني أقول بغرور الآباء بذواتهم حيال أبنائهم؟!
حتما ليس الأمر على هذا النحو أو ذاك.. غير أن "الأنا" عند الآباء تتبختر لتسد الطريق على محاولة الفهم والتفهم، فتصادر لا شعوريا حق الأبناء في أن يكونوا مختلفين عنهم.. ويفعل الآباء ذلك بدافع الرغبة الدفينة لدى الوالدين بالتملك لهذه البنوة بكل ما فيها من الاعتقاد والرأي والفكر أو الرغبات والهوايات وحتى السلوك والشكل والحس والذوق.. وبالتالي يترجم كثير من الآباء موقف أبنائهم في التعبير عن معتقداتهم وآرائهم وتصوراتهم وأذواقهم المخالف لهم، بشكل حاد أحيانا، على أنه نوع من العقوق والجحود أو التمرد.. وإذا كانت كلمتا "العقوق والجحود" لا تعبران عن حقيقة موقف الأبناء من آبائهم، فإن كلمة "التمرد" أقرب إلى وصف الموقف، وهو تمرد لا يختص بهم وحدهم، ولا ينطلق من باعث غير أخلاقي، ولا هو صادر عن عدم حب أو عدم احترام وقلة تقدير، وإنما هو تمرد مصدره طبيعة هذا العصر بكل ما فيه من تحولات هائلة عميقة في الشكل والمضمون، سواء في إيقاع العلوم والمعارف، أو في تقنيات الاتصال وانهيار عالم السرية وأسوار الرقابة المادية والبشرية، فضلا عن اندلاع مصائر الحريات الفردية، وتعالي صيحات حقوق الإنسان، والسجال العالمي المفتوح على كل ما له علاقة بكرامة وشرف وجوده على هذه الأرض.
لسنا وحدنا الآباء من اكتشفوا "غرورهم وعقوق أبنائهم".. فحتى أولئك الآباء في الغرب والشرق ممن سبقونا حضاريا بمئات السنين في التقدم واجهوا هذه الحقيقة.. لكن يبقى أن ليس في الأمر غرور ولا عقوق، وإنما هياج زمن لا يكاد يكف ثانية عن الإبهار والمفاجأة.. وأبناؤنا ينتمون إلى هذا الزمن ولصيرورة تعولمه المنبثقة منهم، فيما نحن حتى مع محاولات تتلمذنا لا نكاد نقوى على أن نلحق بآخر عربة في قطار هذا الزمن.
وليس بوسع أبنائنا إلا أن يكونوا أبناء عصرهم أكثر من كونهم أبنائنا، وسواء راق لنا ذلك أم لم يرق، فهذه هي الحقيقة التي لا بد من تقبلها، بل لا سبيل سوى ذلك. فمهما أحسسنا أن أبناءنا "يخرجون عن طورنا"، فعلينا أن ندرك أن ذلك يحدث لهم، على الرغم منهم ومنا، وأن ما صار قابل للتداول فقط هو حق الاختلاف والقبول به، أما حب أبنائنا واحترامهم لنا فعن طريق ذلك أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي