إلى أين يسير هذا العالم؟

من الواضح أن رغبة الإنسان في أن يرى أو يحصل على ما يريد يحدد له على نحو كبير موقفه.. وبناء عليه فالرضا والحبور والمديح ستكون رهنا بما يريد رؤيته ومن نصيب من يحقق المطلب أو يساعده على ذلك والعكس صحيح أيضا.
لكن هناك نوع من الأشخاص يملؤه الإحساس بالاستخفاف والنظرة الدونية للآخرين.. وحين قال دعبل الخزاعي:

«إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا»
وأعجب هذا القول كثيرين على أساس أن القائل إنما يعبر عن حالة معنوية خاصة به لا يراها تتوافر عند سواه، سواء من حيث الفكر أو الموقف الشجاع ضد الطغيان في حينه.. ومع ذلك ما أظنه إلا مفارقا للحقيقة، فكونه يعلي كثيرا من قدر نفسه، فذاك شأنه، أما أن يجنح إلى حذف الآخرين من المشهد وإقصائهم عن الأهمية لمجرد حالة مزاجية سوداء أو حتى غرور سد عليه منافذ الرؤية فليس مما يمكن التسليم به عقلا أو منطقا.. وطبعا ذلك لا ينفي جمالية هذا البيت من الشعر، لكن هذه الجمالية نفسها هي الفخ الذي كثيرا ما نقع ضحية له في أقوال وأمثال وأشعار وحكايات مشابهة تبدو براقة مثيرة، غير أن تمحيصها وإعمال العقل الناقد فيها يقلبها رأسا على عقب.
هذه المرافعة عن الناس انطلاقا من هذا البيت الشعري لدعبل ينبغي عدم أخذها على محمل التسليم بأن هذا (الكل) أو (الجميع) قابل دوما لأن يكون له وزن نوعي مؤثر وأن يلعب دورا فعالا في التغيير والتطوير وصناعة التقدم دون وجود أفراد أفذاذ يقال لهم حينا النخبة أو قادة الفكر والرأي أو النوابغ والعباقرة.. ممن يضعون أصابعهم على نبض هذا (الكل) أو هذا (الجميع) ويملؤهم الإحساس بمسؤولية تحسين أوضاعهم الاجتماعية والارتقاء بهم في معارج الحضارة وإشاعة السعادة فيهم.
لكن هذه النخب الثقافية أو الفكرية، التي تعمد إلى الكتابة والتأليف في الفلسفة أو السياسة أو الاقتصاد والقانون أو الأدب وتبلور في كلماتها صورة المستقبل الذي نريده لهذه الجموع.. أقول إن هذه النخب - أيا كان نوع إبداعها- لا تكاد تبتعد في موقفها الحقيقي، وفي رؤيتها لهذه الجموع عن موقف دعبل الخزاعي، فالأغلبية من مفكري العالم ونخبه حتما يهجسون في دواخلهم ذات الهاجس الذي صرح به دعبل في أنه (لا يرى في هذه الكثرة أحدا) غير أنهم– أي النخب- في ذات الوقت لا يهجسون بذلك من باب السخرية والاستخفاف، وإنما من قبيل العطف والحدب على هذه الجموع، التي يعتقدون أنها لا تختلف عنهم إلا في حظوظ فرصة الحصول على الوعي والثقافة، لإدراكهم أن أي فرد يتم انتزاعه من براثن التخلف بإتاحة فرصة الحصول على المعرفة، لا يعود من تلك الكثرة التي لا يراها دعبل! لكن.. تبقى الإشكالية في هذا أن الطرح يشير إلى أن صخب الأهازيج والأناشيد والقصائد والخطب والكتابات التي تمجد الشعوب أو الجماهير تهتز الثقة بها طالما أن أمرها معلق بالنخب والمفكرين، وأنها هي التي تعطي للشعوب وللجماهير وزنها.. وبالتالي فاهتزاز الثقة الذي لم يكن مصدره عصرنا الراهن فحسب، وإنما ظل جدلا قائما منذ أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد إلى ميكافيلي في القرن الخامس عشر وحتى منتسكيو وجان لوك وستيوارت مل في عصر الأنوار وإلى اليوم ظل يثير الحيرة إزاء هذه المسألة ويبقيها في مكانها.. وإن كان الشق بين دور النخب ودور الشعوب قد أخذ كما يبدو يضيق بفعل العولمة.. إلا أنه يضيق على نحو نظري فقط أما على صعيد الواقع فالإشكال لا يزال قائما.. ولا يبدو أننا في الزمن المنظور قادرون على حسم هذه المسألة ومعرفة: إلى أين يسير هذا العالم؟ فالشعوب تتورط بالعنف والنخب أيضا.. وإن كان التخلف والظلم والاستبداد مبررات عنف الشعوب، فكيف تبرر النخب عنفها بحق شعوب تزعم أنها تتحسس طريق خلاصها؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي