خماسية العقل الأخلاقي العربي.. إلى أين؟
لم تكف مدارس العرب منذ منتصف القرن الماضي عن الطلب إلى فتيانها وفتياتها في حصص الإنشاء والتعبير أن يكتبوا عن الأخلاق، انطلاقا من بيت أحمد شوقي الشهير:
"وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا"
كما لا يكاد هذا البيت يفلت من الألسنة والاستشهاد به في كل مرة يدور الحديث فيها عن أصول التعامل والدماثة في العلاقات بين الأفراد.
والحقيقة أن بيت شوقي بنصه هذا مثير للالتباس حين التفكير فيه، فمن ناحية فإن لفظة (الأخلاق) بمفردها توحي بالحياد أو الدلالة المطلقة على مجموعة الخصال البشرية، لكنها من ناحية أخرى تشير إلى احتمالين: فهي إما أخلاق فاضلة وإما سيئة.. إلا أن الغالبية يأخذونها تلقائيا على محمل الفضيلة والخصال الحميدة.. ما يعني أن الشحنة الشعورية لمفهوم الأخلاق في الوجدان العام أقرب إلى كونها (خيرة) أو توحي بما هو حسن ونبيل.
لسنا وحدنا، كعرب أو مسلمين من لديهم هذا الشعور الإيجابي، التلقائي بخيرية لفظة (الأخلاق) حين ترد في مجرى الحوار، كما أننا نشترك مع الآخرين في إنزال لفظة (الأخلاق) عن عرشها السامي للأدنى بمجرد أن نسبقها أو نلحقها بصفة تدل على ما ليس محمودا ولا جميلا. والأخلاق هي منظومة القيم التي تحكم العقل، وبالتالي توجه مفاعيله السلوكية والإنتاجية، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع أي إنها تتعدى كونها معيارا للتهذيب واللياقة أو حتى المكانة الخاصة والعامة إلى كونها مصدر حيازة الوزن النوعي للشعب أو للأمة ومرتكز صناعة التقدم والحضارة، فبقدر ما تكون الأخلاق مؤسسة للكفاءة في الأداء وللجودة في العطاء وللمصداقية في الولاء، مالكة للإخلاص في العمل والإبداع ولشرف الانفتاح على الآخر، بقدر ما تكون ضامنة لتحقيق التميز للأمة في الإنجاز والاحترام على الصعيدين الداخلي والخارجي.
الراحل الكبير المفكر المغربي محمد عابد الجابري طرح في مشروعه الرباعي لنقد العقل العربي (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) و(العقل السياسي العربي) ثم (العقل الأخلاقي العربي) طرح النظم المعرفية التي شكلت العقل العربي، فهي في التكوين والبنية ثلاثة نظم معرفية: نظام بياني، ونظام عرفاني ونظام برهاني وحين شخص العقل السياسي وجده محكوما بثلاثة أخرى (القبلية، الغنيمة، والعقيدة)، فيما خلص إلى أن العقل الأخلاقي العربي يقوم على خمسة موروثات: (فارسي، يوناني، صوفي، عربي وإسلامي).. وأن لكل موروث قيمة مركزية أو محورية تمثل الثابت فيه وما حولها قيم أخرى متغيرة.
في الموروث الفارسي يرى الجابري أن (الطاعة) هي ما يمثل قيمته المركزية التي يقول إنها تبدت من خلال ما يسمى بأدب الخطابة والترسل، كما في كتابات عبد الحميد وابن المقفع اللذين كانا قد أخذاها عن الفارسية، وتحدرت بالذات من سياسة الملك الفارسي أردشير، الذي كان يرى أن الملك حارس للدين بمعنى (الدين في طاعة الملك)، بينما اعتبر السعادة القيمة المركزية للموروث اليوناني: سعادة الانجذاب للخالق وسعادة حب المعرفة.. ورغم أن الجابري يعتبر الصوفية موروثا ثالثا لمنظومة القيم الأخلاقية العربية، إلا أنه يؤكد أن قيمتها المركزية تمثلت فقط بالفناء، الذي يرجعه إلى تأثيرات الفتنة الكبرى أيام عثمان بن عفان والحرب التي جرت بين علي ومعاوية، وكذلك معركة صفين، فهو يقول إن تلك الفتن والصراعات أصابت المسلمين بالفجيعة، وجعلت بعضهم ينسحب من الحياة، مفضلا عدم الانحياز إلى أي جانب والنأي بالنفس إلى روحانية صرفه وعزله عن الدنيا. في الموروث الرابع، وهو الموروث العربي، ذهب الجابري إلى أن المروءة هي التي تحتل القيمة المركزية فيه، لأنها تجمع بين الفروسية والكرم والقوة والهيبة.. إلخ، فضلا عن أنها، كما يقول، غير قابلة للتعريف وإنها أقرب ما تكون إلى السؤدد، إلا أن هذه الأخيرة لديها بعد مادي، بينما المروءة ليست سوى معاناة، على حد تعبير الماوردي كما يذكر.
الموروث الخامس والأخير هو الموروث الإسلامي، الذي يعتقد الجابري أن (المصلحة) هي القيمة المركزية فيه، وذلك انطلاقا من آيات قرآنية كريمة كثيرة تحث على الأعمال الصالحات التي تستهدف– كما يقول- تحقيق المصلحة كقيمة عامة لخير الجميع.
تلك هي القيم الخماسية المركزية، التي شكلت المنظومة الأساسية للعقل الأخلاقي العربي.. كما رآها الجابري، التي يقول إن مصدرها العقل وليس الضمير كما هو الحال عند الغرب، فبالعقل (وليس النقل)– كما يقول– تم التصديق بالنبوة، وبالعقل تم أيضا فهم ما جاء به القرآن الكريم وتدبره.. وإن ذلك الدور للعقل تتضافر فيه الحالة الشعورية والإدراك مع وظيفته الإجرائية لكونه عقلا قياسا بامتياز يعمد إلى المماثلة بقياس الغائب على الشاهد.
هذا هو العقل الأخلاقي العربي، كما شخصه الجابري من خلال مرجعية عصر التدوين (القرن الثاني الهجري)، لكن يبقى السؤال اليوم أشد إلحاحا فيما إذا كان هذا العقل ما زال يحتفظ بمكوناته الخمسة تلك أم أنه فقد أو أضاف أبعادا جديدة، خصوصا وقد تعرض لصدمات عنيفة منذ الهيمنة العثمانية لأكثر من أربعة قرون، جاء بعدها الاستعمار الأوروبي الذي مزق الأمة جسدا وروحا ثم توالت طواحين عنف حكومات الاستقلال "الوطنية" وما بعدها حتى الآن.
ومما لا شك فيه أن العقل الأخلاقي العربي وهو يواجه كل تأثيرات هذه التداعيات الهائلة للقوتين الغاشمة والناعمة ليس بوسعه ولا بمقدوره البقاء كما كان فهو رغم ما يتكاثف من سحب شؤم سوداء في وضع أفضل مما كان عليه بالأمس.. وذلك لأنه اليوم لديه خبرة وإنجاز التقدم الإنساني في علوم ومعارف وابتكارات واختراعات وامتيازات حقوقية وحضارية ومدنية لا تقاس إطلاقا بما كان.. لكن يبقى أن اكتشاف ممكنات وإمكانات عقلنا اليوم ينتظر مبادرات جديدة من مفكرين آخرين بقامة الجابري، فبدون ذلك يصعب أن تسير مناهج التربية والتعليم على بصيرة أو أن ينجو العمل السياسي والحراك الاجتماعي والقضاء المدني من التيه والتخبط!