حمل ثقافي كاذب
قال صاحبي: ما أكثر ما سمعته أو قرأته وهو يتحدث عن الوضع الثقافي في بلادنا.. لم يكن من عوام الناس وإنما كان فعلاً من عوام المثقفين، ليس لأنه لم يتخرج في جامعة ولم يحصل على شهادة أكاديمية عليا، ولا لأنه لا شأن له في الكتابة ولا علاقة له بالقراءة.. بل لأنك، مع كل ذلك، لا تجد في ما يقول أو يكتب إلا سفسطائيا رخيصا ينفخ في "حبة" معرفية ليجعل منها قبة خرافية.. كأنما هو منذور لتقحّم مجالات لا يفقه فيها إلا من باب التخرص والاعتباط تكشف وعيا زائفا ومنطقا مضللا وتفضح خشيته من أن يحسب معتقدا فيها في الوقت الذي هو فيه يذم الآخرين على عدم مصداقيتهم.
إنه لا يكاد يفلت عن فمه أو قلمه مصطلح أو فلسفة أو منهج يصبح مثارا للتداول الإعلامي والاجتماعي إلا و(يفتي) فيه على طريقته في السير به في الاتجاه المعاكس، بمغالطة راسخة صارت قلبه وقالبه، وبات معها في حالة إدمان لا يكاد يقوى على الإفلات منها.
قلت لصاحبي: ما دام هو على هذا النحو.. ألا يحق لنا تشخيصه بأنه مصاب بحالة حمل ثقافي كاذب – على غرار الحمل الكاذب عند النساء؟ فضحك وقال: أو (حمل علمي كاذب) فرسالته لشهادته العليا مجرد وريقات تراثية قام بالتهميش عليها فقط وظل يحاذر أن يشير إليها.. فموضوعها في واد.. وكل ما يكتب فيه أو يحاضر في أودية أخرى، فهو قد غمر نفسه في احتدامات العصر بكل تجلياته الأدبية والثقافية والفنية والاجتماعية والسياسية حتى ليخيل إليك وهو يواصل لجاجته على المنابر والصحف على مدى عقود، يخيل إليك أنك أمام رجل هو خلاصة عمالقة عصري العقل والتنوير والموسوعيين العظام في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين ورواد الحداثة وما بعدها.
قلت: لكن.. أليس بالإمكان أن ننظر له ولو من باب "رب ضارة نافعة"؟! فهو في تقحمه هذا بمثابة الحجر الذي ألقي في بركة ماء ساكن. قال بحزم: إنه ماء السراب.. الذي يغرر بالناس.. ولا يدركون منه قطرة.. ثم أضاف: لقد واجه الفيلسوف سقراط هذا النوع من الشخصيات في أثينا، كانوا يسمون بـ (السفسطائيين) أو المعلمين الجدليين، يهدفون إلى الإبهار والارتزاق من مماحكاتهم. سقراط ثار على تلاعبهم في المحاججة وقلب الحق باطلا أو العكس ولجأ إلى إفحامهم بالسؤال الثاقب الغائي حتى قيل إنه بددهم.
هذا المتقحم لكل مجال شبيه بأولئك السفسطائيين فهو يدير حديثه أو كتابته على أساس "الصيرفة" اللغوية والمضاربة الأسلوبية متنطعا بموضوعية الطرح، وحيلته إلى ذلك هي الاعتصام بالتركيز على كلمات لها رنين عصري يتوخى منها إيهام المتلقي بعميق فهمه وواسع اطلاعه مع أنه لا يمارس سوى التطاول عليها بتشويهها في تفسيرات ذاتية وتحليلات انطباعية عائمة في مقاربة منه لما هو سائد مألوف من الموروث الاجتماعي والثقافي لكي يضمن بذلك إحاطة نفسه من خلالها بهالة المثقف الكبير.
قلت لصاحبي إذا فهو قد ملأ الدنيا وشغل الناس، إنما ليس على طريقة المتنبئ الذي قال: (وما الدهر إلا من رواة قصائدي.. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا) حيث برهن المتنبئ فعلا على ذلك، فيما هذا الدعي لم يملأ الدنيا إلا بثرثراته وفذلكاته الأسلوبية.. ولم يشغل الناس إلا بمجازفاته الغرائبية في تقحّم مجال ثقافي أو سياسي أو اجتماعي أو ديني والمكابرة والتنظير فيها بنسيج بلاغي ورطانة كلامية لكي يوحي بالإحاطة في السياقات التاريخية والفكرية لها، معتصما بإشارات مقتضبة لا تحيل إلى المرجعية العلمية أو تحديد المعاني والدلالات الفعلية.. التي هي منه، وهو منها براء!