خبر مختلف وسط أخبار القتل والإرهاب
وسط الأخبار المروعة والصور البانورامية المخضبة بالدماء الواردة من كل حدب وصوب والباعثة على الأسى واليأس من شروق يوم جديد باسم خالٍ من أعمال القتل والتدمير وأصوات المدافع والتفجيرات وروائح البارود ودموع الأمهات الثكلى والأطفال المشردين، يأتينا خبر مختلف مصدره الهند.. نعم الهند التي استطاعت، بتوليفة سياسية متقنة، أن تحمي نفسها من مسرحيات العبث الدموية الشرق أوسطية على الرغم من كونها أحد أكثر البلدان تعقيدا لجهة تركيبتها الاثنية والثقافية والدينية.
يتعلق الخبر بقيام رئيس الوزراء "ناريندرا مودي" في التاسع من نوفمبر الجاري بإجراء تعديل واسع في حكومته، التي شكلها إثر الفوز الكاسح الذي حققه في انتخابات أيار (مايو) البرلمانية على رأس حزب بهاراتيا جاناتا القومي. وقد شمل التعديل تعيين 21 وزيرا جديدا ما بين وزير كبير وصغير (سينيور وجونيور)، وذلك بهدف تسريع الإصلاحات التي وعد بها الجماهير الهندية.
إلى هنا والخبر عادي، لأن قادة الدول كثيرا ما يضطرون إلى القيام بمثل هذا الإجراء لأسباب مختلفة يتعلق بعضها بتقييم الأداء والبعض الآخر بالضغوط الداخلية. غير أننا نقرأ في ثنايا الخبر شيئا غير مسبوق في تاريخ الهند هو قرار مودي بإنشاء وزارة لرياضة اليوغا مستقلة عن وزارة الصحة التي كان من ضمن اختصاصها الاهتمام بكل ما يصلح الجسد والنفس، مع منح حقيبتها إلى وزير السياحة السابق "شيريباد يسو نايك" الذي سارع إلى القول إن وزارته الجديدة تعتزم إقامة إدارات ومستشفيات تقدم الطب البديل لتحسين خدمات الصحة في جميع الولايات الهندية، مضيفا أن عمل وزارته سيكون إنعاش الطب البديل الذي يضم "اليوغا" والطب اليوناني واليورفيدا ونظام سيدها الطبي والمداواة الطبيعية وما في حكمها..
وقد فسر المراقبون قرار مودي هذا أنه خطوة تهدف إلى إحياء الرياضة الأقدم في العالم (ظهرت في الهند قبل خمسة آلاف سنة ولم يعرفها الغرب إلا في القرن التاسع عشر) والاهتمام بها ونشرها مع تعزيز الطب البديل وخصوصا "السيدها" التي تشتمل على تعويد النفس على الشفقة والمحبة تجاه الطبقات المحرومة والمعوزين والمعاقين، وتحقيق التوافق الروحي ما بين المجتمع والنظام، ثم "اليورفيدا" التي تعني علم الحياة.
ومن يعرف رئيس الحكومة الهندية لا يستغرب هذا الاهتمام بـ"اليوغا" وما يتصل بها. فالرجل، فضلا عن كونه نباتيا، فإنه يحرص على مزاولة "اليوغا" بصفة يومية منذ سنوات طويلة، بل إنه حينما ذهب إلى نيويورك لحضور الدورة السنوية الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة دعا المنظمة الدولية إلى تخصيص يوم عالمي لرياضة "اليوغا" باعتبارها "تسمح بإيجاد معنى للعلاقة بين الذات والعالم والطبيعة"، كما ناقش الأمر مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة في سبتمبر الماضي. وقبل ذلك كان مودي قد أكد أثناء مؤتمر عالمي عن طب "اليورفيدا" التقليدي المعتمد في بلاده "أن "اليوغا" اكتسبت مكانة عالمية في أنماط العيش" وأن "اليورفيدا" قد ترتقي إلى مكانة مماثلة لو "قدمتْ كما ينبغي كنمط من أنماط الحياة".
والمعروف أن "اليوغا"، التي أسسها الحكيم باتانجالي الفيلسوف، ليست مجرد رياضة كغيرها من الرياضات وإنما نظام للروح والجسد والعقل قائم على ضوابط فنية محددة من التصوف والزهد والتأمل. وهي تهدف بصفة عامة إلى راحة البال والتحلي بالصبر والإقبال على الحياة بسعادة وطمأنينة وإزالة القلق. وهي من ناحية أخرى مرآة تتجلى فيها روح الثقافة الهندية التي تنشد التحرر الروحي والانعتاق من سطوة المادة لتحقيق التوازن داخل النفس البشرية.
وما ورد في فوائد "اليوغا" أنها تزيد من مرونة الجسم وقوة المفاصل، وتطرد السموم من البدن بما يساعد على زيادة النشاط وتأخير الشيخوخة وإطالة العمر، وتقلل من ضغط الدم وعدد نبضات القلب وآلام العضلات الناجمة عن الشد العضلي، وتزيد من كفاءة الجهاز التنفسي وتقوي الطاقة الجنسية. هذا فيما يتعلق بفوائدها الجسمية، أما فوائدها العقلية فتشمل تحسين المزاج العام، وتخفيض التوتر والاكتئاب والعدوانية، والمساعدة على التركيز وتحسين الذاكرة وتقبل الذات والتمتع بنوم هادئ. ولليوغا فوائد أخرى أخلاقية تشمل التعود على الصدق واللا عنف وعدم السرقة وعدم الأنانية والاعتدال في كل الأمور، واكتساب خصال النقاء والقناعة والاعتراف بوجود الإله.
ومن المهم أن نشير ونؤكد على أن "اليوغا"، التي اصطلح على تسميتها في الأدبيات البوذية برياضة التأمل، لا تتبع ديانة محددة ولا تشترط على من يمارسها أن يتخلى عن عقيدته. نقول هذا ردا على من يحرم على المسلم ممارستها بسبب أن منبعها هو الهند وأنها ذات جذور بوذية.
أحد الخبثاء علق على خبر تأسيس وزارة لليوغا في الهند بقوله، إن الهند لا تحتاج إليها بقدر حاجة دولنا العربية إليها، مضيفا أن الإنسان العربي هو المحتاج إلى ما يزيل قلقه وتوتره ويخفض عدوانيته ويحسن مزاجه ويقوي ذاكرته ويجتث من نفسه الكراهية تجاه الآخر المخالف، خصوصا في هذه المرحلة التي تراجعت فيها قيم الخير والتسامح والمحبة والسلام وحلت مكانها نوازع العنف ومشاهد القتل والجوع والتشرد ونحر الرقاب وتفخيخ المباني وقصف الآمنين من البر والجو بالطائرات والمدافع والبراميل المتفجرة.