ظاهرة السخرية .. «التصفيق والثرثرة» مثالا
خلال الأيام الماضية اشتعلت السخرية في الصحافة والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وفي المحيط العام أيضا بسبب ما شاع عن صدور قرار من الشورى في "التصفيق" وقرار آخر من هيئة مكافحة الفساد في "الثرثرة" قبل أن تسارع الجهتان إلى نفي ذلك.
ليست هذه المرة الوحيدة التي تتأجج فيها السخرية من قبل الرأي العام فقد حدث هذا في مناسبات كثيرة وكان لوسائل تقنية الاتصال الحديثة وانتشارها، فضلا عن الفضائيات منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي الدور الأكبر في الكشف عن هذه الروح التهكمية الاجتماعية الجديدة، حيث برزت إلى السطح ظاهرة التنكيت والتعليقات الهزلية واتسع نطاق تداولها عبر وسائط التواصل الاجتماعي على نحو لافت يتناقض تماما مع ما قيل عن أننا صحراويون، حادو المزاج!!
لم يكن فرسان هذا التحول نحو السخرية من رعيل الآباء، وإنما هم الجيل الشاب الذي واكب عولمة الاتصال، فقد منحته هذه التقنية عنصرا لم تمنحه لآبائه. وأعفت كاهله من ثقل محاذير كان الآباء يرزحون تحتها بعدما تهاوت أسوار الرقابة ونقاط الحراسة أمام تدفق المعلومات وانفتح الفضاء قرية كونية واحدة ليس بوسع أحد أن يضع فيها بابا ولا يبني سدا.
هذا المناخ التداولي العالمي أكسب الجيل الشاب ثقة بأنفسهم من خلال السرعة واليسر في الوصول للمعلومة فكرس ذلك فيهم الجسارة والجرأة في التعبير بإبداع عما تجيش به الصدور من ردود أفعال ومواقف تجاه ما يجري في مجتمعهم من حراك بشري أو مؤسسي.
فعلى سبيل المثال .. سخر البعض من قرار مجلس الشورى في (التصفيق) باعتباره إنجازا فريدا لم تسبق إليه جميع برلمانات العالم منذ ولادة الديمقراطية في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد حتى اليوم، بل إن زميلي في هذه الجريدة الأستاذ سطام الثقيل اقترح في زاويته، وبلذعة بارعة منه؛ أن يلحق قرار التصفيق بقرار آخر عن (الزغاريد) على أساس أن الشورى يضم عضوات أيضا، فيما أبدى آخرون اغتباطهم لاكتشافهم للتو الأهمية القصوى للتصفيق الذي فسر لهم سر تكرار المقولتين الشهيرتين (والتهبت الأكف من التصفيق) و(قوبل بتصفيق منقطع النظير) ولم يفت البعض التأكيد على أن القرار يحتاج إلى مذكرة تفسيرية تبين مناسبات التصفيق وعلاقاته بالمواضيع والأشخاص ونوعيته ودرجته ومدده!!
أما الثرثرة.. فقد حارت السخرية فيها بين اعتبارها كل ما زاد على إفشاء السلام أو اعتماد الكتابة أو الرمز والإشارة في التخاطب، معتقدين أيضا أن على (نزاهة) إصدار مذكرة تفسيرية تحدد فيها سقف الكلام أو الخط الأحمر للثرثرة وما يدخل في نطاق المحظور كالمكالمات الهاتفية، ومن أجل رفع الحرج اقترح بعض تخصيص (صالة للثرثرة) في كل جهة، إلا أن الساخرين أجمعوا في النهاية على أنهم في الغالب لا يسمعون من (الشورى) و(نزاهة) سوى جعجعة ولا يرون طحنا!!
هذه الطرائف اللاذعة مجرد بعض من فيض ظاهرة السخرية العارم الذي تدفق على أثر خبر القرارين السابقين والمماثل لما حدث مع مواضيع غيرها من قبل.. وهو ما يستدعي أن نتساءل عن الأسباب التي أدت إلى بروز ظاهرة السخرية وكيف انتشرت نزعة التهكم عندنا شفاهة أو بالنكتة أو بالتعليق أو بالمقالة أو بالشعر أو بالرسم الكاريكاتيري؟!
في الغالب تولد السخرية من المفارقة بين وضعين يشكل التقابل بينهما تعارضا غرائبيا لا يتسق مع المنطق ولا يتوافق مع الواقع.. ومعلوم أن حدوث المفارقة في المجتمعات البدائية (القبلية أو الريفية) نادر جدا، فالعلاقات فيها محددة ومحدودة لا تحتمل التملص والمغالطة، وقد كان هذا هو الحال في وضعنا المحلي قبل أن تتكثف مفاعيل التنمية في بلادنا وتحدث تحولات مدنية حضارية شاملة، خصوصا مع انتشار التعليم وتزايد التواصل مع الشعوب الأخرى في الداخل وعبر الأسفار للخارج ثم تعولم الاتصال.
ذلك كله أدى إلى تغير نوعي في السيكلوجية الاجتماعية وتحولها من الجهامة الصحراوية والحدة والانفعال إلى الليونة والتصالح مع طبائع وثقافات الشعوب الأخرى، أما من لم يتصالح معها فقد بات على الأقل عارفا بها، وهذا جعل خاصية المقارنة مع الآخر تتفاعل في داخلنا وتدفع بنا إلى حالة منافسة لا شعورية مع الآخر للتعبير عن ذواتنا لكي نكون مالكين للجاذبية في أسلوب تعاملنا وقاموسنا اللغوي اليومي.. وبالتالي أسفر ذلك عن طرق جديدة في التعبير، من أبرزها السخرية.
إن هذا التحول الرائع تموضع بشكل واضح في روحية الجيل الشاب وانعكس في إدارته لمزاجه وإدراكه العقلي وطريقة توصيله لقناعاته بشكل ساخر كما بشكل جاد، ما يشير إلى أن الوعي اليوم، بلغ مرحلة من الرقي النوعي ينبغي معها الحرص على عدم إهداره في تصريحات (تنفي) أو (تبرر) أو (توضح)، فحاسة الوعي لا تستاء فقط من اللجوء إلى الفذلكات اللفظية مهما كانت صادقة، لكنها تطالب بألا تضطر الأجهزة ولا مسؤولوها في القطاعين العام والخاص إلى التغطية على خلل أو تعثر بقشور لغوية، بل أن تتولى جودة الإنجاز وكفاءة الأداء، بتحققهما الفعلي قطع الطريق على القيل والقال .. لكيلا تكون السخرية علينا وإنما لنا!