هديل .. عتبات الجنة مرة أخرى

أستجيب مسرورا فرحا لهذا الطلب:
"أنا صديقة هديل الحضيف.. وما زال عندي مقالك عنها بعنوان "عتبات الجنة" كتبته قبل وفاتها بقليل- يرحمها الله- في أيار (مايو) 2008. لقد مرت سنوات وسنوات، ولم يعد يذكرها المدونون الإلكترونيون الجدد، بينما هي الرائدة الأولى للمدونات في العالم العربي.. أسألك بالله أن تضع مقالك مرة أخرى عنها لكي يعرفها من لم يدرك وقتها، وليتك لا تمس حرفا فيه".
أعجبت بهديل الحضيف وتبادلنا رسائل بالبريد الإلكتروني، وكنت أعجب كيف لبنت صغيرة أن تحمل ذاك العقل الكبير، بل الهم الكبير.. لما انتقلت للرحمة الربانية، شعرت أنها انتزعت من عقلي ومن قلبي.. وكان الفقد كبيرا لا يعوض ومؤلما.. لليوم.
وأقول لصديقة هديل، إنه لا بد أن أخفف من عدد كلمات ذاك المقال جبرا، وأحاول أن أبقي زبدته.
هديل الحضيف ظاهرة أدبية فكرية ثقافية من بناتنا، وفارقة لامعة برأس الصنعة الثقافية العصرية، عصر الإنترنت والمدونات. ومن وراء هديل تثقفت، وتمرنت أذهان آلاف البنات والأولاد.
هديل أثرت الكتابة في القصة والتدوين والمقال، وكاتبة مسرحية عرضت مسرحيتها على مسرح جامعة الملك سعود، وعنوان المسرحية "من يخشى الأبواب"، وتعلق من رآها من الأجيال الطالعة بفكرتها وأحداثها وأهدافها. عقل البنت هديل الغائب الآن في ضمير الملكوت الأعلى، رحيقٌ من الذكاء وغـطـي بطبقة من الموهبة والابتكار والعمل، بإناء نوراني عميق من الإيمان.
هديل بنتٌ بفجر العمر صنعت تاريخها الصغير، وهذا التاريخ الصغير قاطرة تجري على سكة من الآمال والطموح والمعرفة والبحث والدأب، وعهد القاطرات أبدا أن تجر وراءها العربات، وعربات هديل تغوص من طول تتابعها في قلب الأفق .. هديل هي الخامة التي يخرج منها منتج من منتجات التطور في أي أمة، وهي التي أرادت دوما أن تنقذ جيلها من غيبوبة الجهل والتواكل والكسل.
وهديل ذواقة نادرة للآداب العالمية، ولما تسوح في آمالها بتلك المدونة الافتراضية التي عنونتها بالعربية «باب الجنة»، وبالإنجليزية بـ (Heaven’s Steps) واخترت أن أستعير المعنى «عتبات الجنة» ليس لأنه الترجمة المباشرة، بل لأنه أقرب لروح الفيضية الصافية المنقطعة للخدمة المعرفية.
لكم أحببت ما تكتب هديل، إنها كاتبة ليست من الطراز الأول، إنها تتعدى ذلك بذائقتها الإنسانية لتتحسس المعرفة الشمولية، وتذوق الحكمة السائرة على الأرض بين الشعوب والثقافات والعقول، وهديل أعلنت بداية نهاية عهد الصحافة الورقية المحكومة بأبراج النزول، وأن شمسا بازغة جديدة هي التي ستشرق، شمس الصحافة الحرة الفردية، البعيدة عن الأجندات والمجالس، وهي تدعو جيلها ليحلقوا معها في آفاق بلا تخوم.
وهديل تروي عن نفسها بصيغة الطرف الثالث، فتنهي حكاياتها الشيقة بصيغة الطرف الثالث بجملة تلزمها وهي: "هذا ما حكته هديل".. وهديل تحكي درر العالم، والأكثر لفتا للانتباه أنها مثل خبير الجواهر المحترف تعرف قوة الصيـغ التعبيرية، التي تعوم على نصوص الكتاب. أنظر إلى هديل وهي تقدم للكاتب اليوناني "نيكوس كازانتزاكي" مختارة هذه النص الذي التقطته ذائقتها الفائقة الحساسية: "قلت لشجرة اللوز: "حدثيني .. فأزهرت شجرة اللوز..".
وانرشق سهم حاد صغير في قلبي وهي تحدثنا عن المجموعة القصصية لغابرييل غارسيا ماركيز التي عنوانها: "حجيج الغرباء" فتقول هديل عنها: «إنها مجموعة تحمل ثيمة واحدة وهي «الموت». أحببتها كثيرا وجعلتني تحت سطوتها لزمن ليس بالقصير؟» وجملة «ليس بالقصير» أفصحت بانتهاء ثقل سطوة الموت على هديل، جملةٌ نزعت بخفة برق وامض السهم من قلبي وضمدته بزهرة الأمل.
لعلك يا صغيرتي برحمة من خلقك ارتقيت عتبات الجنة.. وهذا ما ستحكيه هديل!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي