هونج كونج.. جائزة الصين وصداعها
ظن حكام بكين أن استعادتهم لـ"هونج كونج" في تموز (يوليو) 1997 بطريقة سلمية من بعد 150 سنة من الحكم البريطاني انتصار لهم ونهاية لمشكلة كانت تؤرقهم وقتذاك وهي تأثر الداخل الصيني بما زرعه الإنجليز في ذلك الجزء السليب من وطنهم من مفاهيم وتقاليد غربية، بل شاهدهم العالم منتشين لحصولهم على دجاجة تبيض ذهبا دون عناء سوى الصبر والترقب. وقتها اعتقدوا خطأ أن مجرد قيامهم بتغيير المناهج التعليمية كفيل بخلق جيل جديد من الـ"هونج كونجيين" المطيعين والمخلصين للوطن الأم وحزبه القائد، وبما يسمح سريعا باندماجهم وتكاملهم مع إخوتهم في البر الصيني. غير أنه بعد مرور ما يقترب من العقدين إلا قليلا على ذلك الحدث لا تزال المستعمرة البريطانية السابقة وسكانها المختلفين ثقافة وأسلوب حياة عن نظرائهم وأقاربهم في البر الصيني يشكلون صداعا لنظام بكين.
ذلك أن الجيل الجديد من شباب المدارس والجامعات الـ"هونج كونجية"، الذين كانت بكين تعول عليهم هم من يتصدون لها اليوم ويرفعون عقيرتهم ضدها. ولحسن الحظ كانت هناك قياسات مستمرة للرأي في "هونج كونج" حول هذه المسألة. فمثلا في العام الماضي كشف أحد الاستطلاعات عن أن أعداد المتمسكين بهويتهم الـ"هونج كونجية" في ازدياد، بل جاء في الاستطلاع نفسه أن معظم من استطلعت آراؤهم من فئة الشباب فضلوا الهوية الـ"هونج كونجية" قطعيا. ولعل هذا هو ما يخيف قادة بكين لأن هؤلاء لو أتيحت لهم فرصة الاختيار الحر وتقرير المصير فإنهم سيقررون بلا تردد الانسلاخ عن السيادة الصينية أو على الأقل الإتيان بشخصية معارضة لبكين لتولي شؤون إقليمهم. والحقيقة أن هذا الموضوع يخيف قادة بكين أكثر من تحركات بعض الجماعات والأحزاب في تايوان لإعلان الأخيرة كيانا مستقلا طبقا لما كتبته مجلة الايكونومست البريطانية تحت عنوان "الصراع من أجل هونج كونج".
والمتابع لأحداث "هونج كونج" وتطورات الأمور فيها منذ عودتها إلى الحضن الصيني لا بد أنه لاحظ وجود تذمر بين سكانها يطفو على السطح من وقت إلى آخر في صور تراوح ما بين كتابة المقالات الصحفية اللاذعة، وإذاعة الأغاني الوطنية التي لا يحب قادة بكين سماعها، والتعاطف مع سجناء الرأي في البر الصيني، وإشعال الشموع على أرواح من قتلهم جيش الشعب الأحمر، وصولا إلى التظاهرات الشارعية العارمة والاعتصامات والاشتباك مع رجال الأمن. وقد سجل أكبر تظاهرة في تاريخ هذه المستعمرة البريطانية السابقة في عام 2003، حينما اكتظت شوارعها بأكثر من نصف مليون متظاهر خرج للتنديد والاحتجاج ضد قوانين أمنية جديدة صارمة أرادت بكين فرضها عليهم. وفي أيلول (سبتمبر) الجاري صارت "هونج كونج" مجددا مسرحا لاحتجاجات عاصفة، وذلك حينما نظم آلاف المحتجين مسيرة صامتة للمطالبة بالديمقراطية، لوحوا خلالها بعلم الجزيرة زمن الحكم البريطاني مع رفعهم ليافطات تندد ببكين وتتهمها بخيانة ما اتفقت عليه مع لندن، وذلك في إشارة إلى البند الخاص بعدم المساس بالوضع الخاص للجزيرة ولا سيما فيما يتعلق بمؤسساتها الدستورية الديمقراطية.
والحقيقة أن هؤلاء المتظاهرين وأمثالهم مستاءون من عدم التزام بكين بوعودها المتكررة للشعب الـ"هونج كونجي" البالغ تعداده 7.2 مليون نسمة لجهة السماح لهم باختيار حاكمهم بطريقة حرة مباشرة بدلا من تعيينه من قبل الحزب الشيوعي الحاكم في بكين. صحيح أن بكين تقول في كل مرة أنها ستتيح لأبناء "هونج كونج" اختيار حاكمهم الذي يعرف أيضا بـ"رئيس الجهاز التنفيذي"، لكن ما أن يحل موعد هذا الاستحقاق إلا وتتنصل من وعدها وتقول "عليكم الانتظار حتى المرة القادمة". وهذا تحديدا ما جرى في آب (أغسطس) الماضي حينما أعلنت السلطات الصينية أنها ستسمح لأبناء "هونج كونج" باختيار حاكمهم بحرية، لكن هذا لن يحدث حينما يحين موعد اختيار بديل للحاكم الحالي "كونج ليونج تشون ينج" في عام 2017. والجدير بالذكر في هذا السياق أن جميع الشخصيات الأربع التي تولت حكم "هونج كونج" منذ عودتها إلى أحضان الصين لم تحظ بأي شعبية أو تأييد داخل الإقليم واتهمت بأنها مجرد دمى تحركها بكين وتنفذ ما تريده دون اعتراض أو حتى استفسار. ولعل أقلهم شعبية هو الحاكم الحالي؛ لأن عهده شهد ما لم يعهده الـ"هونج كونجيون" من ملاحقات وتهديدات لوسائل الإعلام ورقابة على المراسلات الخاصة وغير ذلك مما يندرج تحت سياسة إسكات أصوات المعارضة.
وإذا كانت تظاهرات السنوات الماضية، تميزت بمشاركة مئات الآلاف فيها، فإن تظاهرة سبتمبر تميزت بشيء غير مسبوق ذي مؤشر خطير هو ارتداء المتظاهرين لملابس سوداء موحدة ولف جباههم بشارات ذهبية فبدوا أقرب إلى جيش ميليشاوي مستعد للقتال. أما الأمر الآخر الذي تميزت به تظاهرة أيلول (سبتمبر) هو تحريض المتظاهرين للسكان على العصيان المدني والانقطاع عن العمل واحتلال وسط "هونج كونج" المالي والتجاري، بل وحث الطلبة على مقاطعة صفوفهم.
على أنه في مقابل هذه الفئة الكبيرة من المعارضين للنظام القائم في البر الصيني هناك فئة أصغر عددا توالي الأخير وتدافع عنه وتصف معارضيه بالخونة العاملين لحساب أعداء الصين، بل تدافع بقوة عن الوضع الحالي لـ"هونج كونج" أي تمتعها بنظام إداري خاص ضمن الصين الواحدة.
ومما لا شك فيه أن "هونج كونج" بهكذا وضعية تنضم إلى دول كثيرة باتت تشهد انقساما بين طائفتين من شعبها، لكل منهما وجهة نظر لا تحيد ولا تتنازل عنها حتى لو كان الثمن زوال الأمن والاستقرار وخراب ودمار الاقتصاد. ولعل من أقرب الأمثلة الآسيوية في هذا السياق ما حدث في تايلاند من صراع واحتراب ما بين ذوي القمصان الحمراء وذوي القمصان الصفراء. لكن ما يحسب لشعب "هونج كونج" أنه حتى الآن يضبط نفسه ويحول بينها وبين الاحتكام إلى العنف. ولئن أرجع البعض هذه الخاصية إلى ما زرعه الإنجليز في نفوس أبناء الجزيرة من خصال التمسك بالنظام ونبذ العنف والاحتكام الى القانون، فإن البعض الآخر يرجعه إلى خوف الـ"هونجكونجيين" من عصا بكين الغليظة إذا ما تمادوا في معارضتهم ومطالبهم، خصوصا أنهم تابعوا عبر البث التلفزيوني الحي ما حدث لدعاة الديمقراطية في ساحة "تيان ان مين" في عام 1989 من سحق بالدبابات المجنزرة.